ربما الآن ثمة أفاق حقيقية لبيان ملامح مستقبل محافظة كركوك كإحدى المحافظات العراقية، التي تشكل اليوم مصدراً للخلاف و النزاع بين القوى السياسية العراقية، لاسيما بين أهالي كركوك من العرب و الكُرد و التركمان، والذين يقطنون جميعاً على جغرافيا هذه المنطقة و يتصارعون على هويتها.

نحن نعلم أن هذا النزاع التاريخي على مدينة كركوك، مصدره الأساس هو الدولة ليس إلا، و الأنظمة العراقية المتعاقبة هي المسؤولة دوماً عن دوامة هذا النزاع و تفخيخه في نزعات قوموية قابلة للإنفجار، و إلا، غير ذلك، لا أحد منا يتمنى أن يكون التعلق بهذا الشبر من الأرض و الموطن يتعدى حدود مفهوم المواطنة و ممارسة هذا الحق، لاسيما إذا ما عشنا جميعاً في ظل نظام ديمقراطي يضمن لنا التعددية و التعايش بين أبناء الوطن الواحد دون طغيان العنصرية و سيادة الإستبداد.


المشكلة الأساسية مع كركوك، هي، برأيي، الخشية من إنعكاسات واقعها الديمغرافي على سيطرة و سطوة مكون من مكوناتها و بالتالي تهديد مفهوم المواطنة. في كركوك العرب يخشى من سيطرة الكُرد و هذا الأخير من العرب و التركمان من الأثنين، لذا نلاحظ بإستمرار أن كل واحد من هذه الأطراف يسعى لتعزيز موقعه السكاني و موقفه السياسي والإداري، بل ثمة اليوم، أكثر مما مضى، صراع حقيقي، يقف من ورائه قوى أقليمية و داخلية، على هوية المدينة و طابعها الديمغرافي الأبرز، و هذا كله بالرغم من المخرج الدستوري الذي أصبح هو الآخر، للأسف، جزءاً من الصراع الدائر بدل أن يكون عاملاً من عوامل التخلص من هذه الأزمة. عنيت هنا تحديداً المادة 140 من الدستور العراقي الدائم، الذي شُرعت خصيصاً لتسوية أزمة كركوك و مناطق أخرى عراقية مماثلة.


و هنا عندما نقول أن المادة المذكورة هي الأخرى أصبحت جزءاً من الأزمة، ننطلق من طبيعة موقف بعض من الأطراف العربية و التركمانية الرئيسية في المدينة من المادة 140 و الذي يتسم عموماً بالسلبية و الحيلولة دون تنفيذ هذا الإستحقاق الدستوري، و ذلك ربما لسبب جوهري، هو أن المادة المعنية بالأزمة تصب في صالح الطرف الكردي في النزاع، و هذا يعني، في نظر المكونات الأخرى، سيطرته على المحافظة، مما تثير خشية العرب و التركمان و إعتراضهما على ذلك حتى و إن كان الأمر مجرد إفتراض. و لهذا السبب بالذات رأينا نحن في السنوات الخمس الماضية أن هذه المادة الدستورية لم تشهد أي تطور حقيقي بأتجاه تطبيقها سوى بعض الخطوات الخجولة المتمثلة في إعادة أعداد محدودة من مرحلي الكُرد و التركمان و تعويض بعض من الخسارات المادية التي لحقت بهم جراء سياسات الترحيل و التعريب و التهجير التي كان يمارسها النظام البائد بحق القوميتين.


و من هنا شاهدنا بمرور الزمن أن أزمة كركوك تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، و لم يكن أمام هذا الملف سوى خيار آخر لتمهيد الأرضية نحو إنفراج محتمل للأزمة، و هو مشاركة كركوك في الأنتخابات العراقية. و قد لاحظنا على هذا الصعيد معارضة عربية و تركمانية شديدة، و مسوغ هذا الموقف كان الخشية من سيطرة الكُرد و ظهور الحجم الحقيقي للمكونات الأخرى القاطنة في المحافظة و تحديداً زعزعة مكانة العرب و التركمان في كركوك، لذا سرعان ما وجدنا أنهم يطالبون بإستثناء كركوك من الإنتخابات، إلا أن الطرف الكردي و من خلال ممثليهم في مجلس النواب و مساعيهم الدبلوماسية أستطاعوا إقناع القوى العراقية بضرورة مشاركة كركوك و عدم ترك هذه الأزمة لتعقيدات أخرى سياسية.

و هنا بيت القصيد في حديثنا طبعاً !، أي مستجدات العراق و ظهور حقائق كبيرة على أرض الواقع بشأن كركوك نتيجةً للأنتخابات العراقية التي أجريت في 7 من آذار و الذي أظهرت لنا و بجلاء أن الكُرد، بالرغم من عدم تطبيق المادة 140 من الدستور، و بالرغم من عدم عودة كافة مرحليه الى المدينة، و بالرغم من المناطق و المدن الكردية التي كانت تابعة لمحافظة كركوك ولكنها أستقطِعَت منها في أطار سياسية التغيير الديمغرافي و التطهير العرقي، و بالرغم من كل المساعي الرامية لعرقلة حصول الكُرد على حقوقه المهضومة، إلا أن الكُرد أثبت و من خلال صناديق الأقتراع بأنه يشكل المكون الأساسي في كركوك، و ربما الدليل القاطع هو نسبة الأصوات و المقاعد التي حصل عليها في هذه الإنتخابات و التي تشير الى تقدم ملحوظ لكبرى القوائم الكردستانية المتمثلة في التحالف الكردستاني على قائمة العراقية وذلك بآلاف الأصوات، لاسيما إذا ما تم أسقاط عشرات الآلاف من الأصوات المزورة التي ظهرت للمفوضية في مناطق حويجة و بعض المناطق الأخرى ذات الغالبية العربية.

بعبارة أخرى مختصرة نود هنا القول: أن النزاع على مدينة كركوك يشهد مرحلة أخرى و طور جديد، فهو إذا ما أفلت نوعا ما من الإستحقاق الدستوري بفعل الصراعات السياسية و التدخلات الخارجية، فلا مهرب له من الإستحقاق الإنتخابي. كما أن كركوك اليوم قريبة جداً من إظهار ملامح حاضرها و مستقبلها، يبقى التصميم على أمر جوهري و هو إمتثال جميع مكونات هذه المدينة لما أفرزتها الإنتخابات العراقية و القبول بالواقع الديمغرافي لكركوك و بالتالي تسليم النزاع للأستحقاق الدستوري الذي لا بديل له حتى الآن طالما هو الفيصل الحقيقي و المرجع الأنجع للحد من هذه الأزمة.

* رئيس تحرير مجلة والابريس ndash; كردستان العراق