هل هناك طريق آخر لإعادة بناء دولة حديثة من دون تحالف المالكي وعلاوي؟

جاءت نتائج الانتخابات العراقية التي أعلنت يوم الجمعة الماضية 27 آذار لحظة تاريخية مضيئة ضمن مسار حافل بالكوارث والنكسات مر به العراق ابتداء من عام 1958. فلأول مرة منذ سقوط النظام السابق تحقق قائمتان انتخابيتان الأكثرية المطلوبة لتشكيل الحكومة. وأعني بهما قائمتي ائتلاف دولة القانون التي يتزعمها رئيس الوزراء نوري المالكي والقائمة العراقية بزعامة إياد علاوي.


وعند التمعن في ما قام به هذان القائدان السياسيان خلال فترة حكمهما سنجد أنهما (ومن دون أن يعلما) يشتركان في الكثير من المبادئ على الرغم من اختلاف شخصيتيهما اختلافا كبيرا. ومن أهم هذه المبادئ التي اتبعاها مسعاهما للفصل بين الدين والدولة والسعي لإعادة بناء مؤسسات الدولة الأمنية من خلال إعادة أعداد كبيرة من رجال الجيش والشرطة السابقين بعد أن حل بريمر أجهزة الجيش والأمن إثر سقوط النظام. كذلك فإن كليهما حريصان على وحدة العراق وتقوية دولة مركزية ضمن إطار فيدرالي محدد يتماثل مع الأطر الفيدرالية السائدة في العالم الحديث اليوم. في الوقت نفسه، خاض كلاهما معارك ضد تلك القوى التي كانت تدفع صوب سيادة الفوضى على حساب النظام والقانون. ففي الفترة التي تسلم الدكتور إياد علاوي رئاسة الوزارة خلال عامي 2004- 3005 ولمدة تسعة أشهر حارب بقوة أولئك المتمردين في الأنبار الذين كانوا يرفضون القبول بالدولة وقوانينها، كذلك بادر بإعادة الكثير من الكفاءات العسكرية والمدنية للعمل إلى وظائفها خصوصا وأنه وضع مبدأ المحاسبة المقتصر على من ارتكب جرائم بحق الآخرين خلال حكم صدام حسين بدلا من محاسبته على انتمائه السياسي السابق. وهذا المسار اتبعه نوري المالكي ايضا منذ تسلمه رئاسة الحكومة في أيار 2006، إذ دخل في معارك ضارية ضد تلك المجموعات المنفلتة من الدولة والتي أرادت أن تكون بديلا عنها في مدن كبيرة مثل البصرة مثل فصائل جيش المهدي، كذلك فإنه استمر بإعادة الكثير من العسكريين ورجال الأمن السابقين إلى أعمالهم وسعى إلى إعادة الكثير من الكفاءات إلى وظائفهم. كذلك كان حريصا على موضوع وحدة العراق وفصل الدين عن الدولة حتى مع القيود المفروضة عليه في كونه زعيما لحزب ذي توجه ديني وأعني حزب الدعوة الإسلامية.


بوضع البرامج التي طرحتها القوائم الفائزة في الانتخابات جانبا (والتي قد تكون في نهاية المطاف حبرا على ورق) يمكننا القول إن الممارسة السياسية للعديد من القوى السياسية الفاعلة في الساحة العراقية ظلت خلال السنوات السبع الأخيرة تتحدد بمبدأ واحد: كم يريد هذا الزعيم أو ذاك أن يقوي (أو يقوض) سلطة مؤسسات الدولة؟ ويمكن القول إن هناك اتجاها قويا يهدف إلى تقوية الدولة المركزية (وهذا الوضع هو الطبيعي في كل البلدان ذات الحكم الفيدرالي مثل الولايات المتحدة وألمانيا وكندا) وهنا يمكننا تلمس ذلك بوضوح من خلال ممارسة إياد علاوي ونوري المالكي خلال فترتي حكمهما.


بالمقابل هناك زعماء مثل مسعود البرزاني والراحل عبد العزيز الحكيم كانوا حريصين على استخدام النفوذ والسلطة داخل الدولة العراقية لتقويض وجودها كوحدة قوية. فالبرزاني ظل همه الأول انتزاع أكبر قدر من الأراضي العراقية لضمها إلى إقليم كردستان العراق ومنع أي تواجد للجيش أو المؤسسات الأمنية العراقية هناك، بالمقابل كان الراحل الحكيم من أشد الناشطين لمبدأ مماثل يتمثل في فصل الجنوب العراقي عن العراق على أساس طائفي من خلال إطار كونفدرالي هلامي. وبالتالي جعل محافظات العراق الجنوبية في وضع شبيه بكردستان العراق اليوم. بالتأكيد يجب عدم استبعاد زعيم مثل السيد مقتدى الصدر الذي كان يريد تحقيق هدفين متعارضين معا: وحدة العراق وتقويض القانون والنظام اللذين تسعى أي دولة إلى فرضه.


لعل الكثير يحاججون بأن نوري المالكي على الرغم من كل ما قدمه من جهود في مجال فرض القانون وضرب الجماعات المنفلتة، بغض النظر عن خلفيتها الطائفية، وفي مجال دعم الجهود الهادفة إلى التعامل مع قضايا خلافية (مثل كركوك) من منظور وطني وعلى الرغم من مقاومته للنفوذ الإيراني (إلى حد كبير) خلال فترة حكمه، فإن حزبه يظل طائفيا.


لكن التجارب العديدة التي جرت في العالم كلها تنطلق من أحزاب متشددة تتبنى في نهاية الأمر برامج معاكسة لمنطلقاتها حينما تضعها اللحظة التاريخية على المحك. استطيع القول إن أهمية المالكي لم تتأتى من شخصيته فاختياره جاء نتيجة صراع داخل الائتلاف العراقي بين أقوى الشخصيات في أوائل عام 2005 وهما السيدان مقتدى الصدر وعبد العزيز الحكيم وجاء اختيار المالكي حلا وسطا ما بين اختيار الدكتور إبراهيم الجعفري والدكتور عادل عبد المهدي.


مع ذلك فإن اللحظة التاريخية جاءت حينما تفجر النزاع الطائفي بقوة بعد تفجير مرقد العسكريين في سامراء في شباط 2006 على يد تنظيم القاعدة. وهنا طرحت اللحظة التاريخية أمام المالكي واحدا من خيارين: إما أن يكون زعيما طائفيا أو زعيما وطنيا. وهو اختار الخيار الثاني على الرغم من خلفيته الحزبية وتاريخه الشخصي. ومن تلك اللحظة اصبح ممكنا احتواء ما كان ممكنا أن يكون كارثة كاملة للشعب العراقي ومستقبله. وكل ما ترتب عليه من تحول في ظهور قوات الصحوة وفرض القانون في مدن كانت تعيش على حافة اليأس جاء بفضل هذا الموقف التاريخي.


لعل البعض يحاججون أن المالكي يفتقد المرونة والكاريزما ولكن عناصر كهذه تظل في رأيي ثانوية: إن هذه الاتهامات تأتي بالدرجة الأولى من أولئك المعارضين لوجود دولة عراقية قوية وبتحقق مصالحة وطنية حقيقية ووجود مؤسسات تستند إلى إرث الدولة العراقية وما فيه من خبرات متراكمة جيلا بعد جيل في تسيير الخدمات العامة وتطوير البلد. فالعراق كان أول بلد أثبت أنه قادر على إدارة صناعة النفط بكفاءة عالية وهو البلد الذي يمتلك اليوم من الكفاءات في الداخل والخارج ما يمكنه من تحقيق نقلة نوعية ثقافية وعلمية واجتماعية في داخل العراق ومحيطه لو توفر سلم اجتماعي حقيقي فيه ورؤية إصلاحية وعلمانية صادقة لدى قادته.
لذلك فإن ائتلافا يجمع المالكي وعلاوي هو الوحيد القادر على تحقيق إنقاذ المشروع الإصلاحي الذي بدأه علاوي واستمر فيه المالكي على الرغم من اختلاف خلفياتهما والقوى المتحالفة معهما.


فائتلاف من هذا النوع سيحقق مصالحة وطنية حقيقية تتنافس مع المصالحة الوطنية التي تمكن نيلسون مانديلا من تحقيقها في جنوب أفريقيا بين البيض والسود على الرغم من الفجوة الفاصلة بينهما وتراكمات الاضطهاد والتمييز العنصري الذي استمر لأكثر من قرن هناك.
واليوم يمكن القول إن المصالحة الوطنية قد توفرت الأرضية لتحققها في العراق بفضل نتائج الانتخابات. فما حققه علاوي من نجاحات كبيرة في المدن السنية الشمالية مقابل النجاحات الكبيرة التي حققها المالكي في المدن الشيعية الجنوبية والتساوي في الأصوات داخل بغداد، قابل لأن يكون ارضية لتحقيق وحدة جذرية بين أبناء العراق في شماله ووسطه وجنوبه. فانتخاب أبناء المدن السنية لإياد علاوي دليل على قبولهم بمبدأ العمل السياسي السلمي وببرنامجه العلماني ورفضهم للأحزاب الطائفية، وانتخاب مدن ذات أغلبية شيعية للمالكي ببرنامجه الوطني دليل على تخلي الكثيرين من الارتباط بالمشروع الطائفي الذي كان أساس الحكم منذ سقوط النظام السابق. وكلا النتيجتين تشكلان دليلا على وجود تحول عميق لدى العراقيين صوب حكم علماني بعد تذوقهم الويلات على يد التنظيمات التي اتخذت الدين وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية تخلو في الكثير من الأحوال من أي هاجس وطني.


والبديل عن ذلك هو عودة عقربي الساعة إلى الوراء، وهذا يتمثل بنجاح المشروع المعاكس في عرقلة خلق الشروط الأولية لعراق اتحادي ذي دولة مركزية قوية ومؤسسات دولة فعالة تستند إلى مبدأ الكفاءة قبل كل شيء وبعيدا عن المحاصصة الطائفية والقومية.


لذلك فإن نجاح المالكي أو علاوي في كسب أطراف هي ذات توجه معاكس لمشروعهما التوحيدي ذي الطبيعة العلمانية سيقوض مشروعهما. وأنا أقول مشروعهما لأن الفوارق ضئيلة بين ما طرحه كل منهما. إنهما الآن في نفس السفينة وفي نفس الاتجاه ولن يؤدي خلافهما إلا إلى انقلاب السفينة وغرق الكثير من ركابها مع انحراف كبير لاتجاهها قد يكون أبديا. نحن أمام فرصة تاريخية: إما بناء الوطن على أساس وطني أو تدميره على أساس طائفي وقومي.


*روائي عراقي مقيم في لندن