يطمح الانسان العقلاني في المجتمعات العربية الى فصل الدين عن السياسة املاً في اعادة تجربة العلمانية في مجتمعاته، الا اننا اذا تمعنا قليلاً في موضوع العلمانية، نرى انه من الاجدر بنا ان نطالب في فصل الدين عن الفكر قبل فصله عن السياسة، فنحن جميعاً نسعى الى المعرفة لاكتشاف افاق جديدة تصب في منفعة الافراد و الجماعة، من هنا أجد اهمية الاستناد على فكر قابل للتغيير، غير مرتكز على قواعد ثابتة لا حراك فيها، فتبنينا للثوابت تعاكس التغيرات البيئية و الزمنية.

دعونا في البدء نُعرف معنى المعرفة، في معظم الاحيان يتم خلط مفهوم المعلومة بالمعرفة ليضيع المعنى الاساسي للمعرفة نفسها. لا شك به ان المعرفة تستريح على قاعدة من المعلومات المتوافرة فكما قال اختصاصي الاعصاب quot;نكاشquot; المعرفة هي quot; رواية الاناquot;، ففي كل مرة نرغب باكتشاف ما لا نعرفه او نسعى نحو ادراك اوسع للمعلومة لتحويلها الى مفهوم معرفي، علينا ان نضع جميع معتقداتنا و مفاهيمنا على كفة الميزان لاستعراضها مجدداً، ففي كل رحلة غوص استكشافية، يتوجب علينا خلع جميع المكونات الانوية الناتجة عن معتقدات و اسس تراكمت في ذاكرتنا لتشكل جداراً استبدادياً و قمعياً كجدار برلين، لهذا يتوجب علينا التحرر من كل شيئ يمكنه اعاقة هذه الرحلة، و هذا لا يتم الا من خلال اعادة تغيير في مبنى quot;الاناquot; من خلال قبول الافكار المختلفة و محاولة ترميم التفكير المرتكز على الهدم و البناء بشكل استمراري.

و اذا اردنا تعريف مبنى quot;الاناquot;، نراه مرتكز على التعاليم المكتسبة من الثقافة الجماعية و هذا ما نسميه الوعاء الجماعي، لانه يحوي كل الافراد تحت بطانة من معتقدات و رؤى و مفاهيم، حيث يتداخل الوعاء الثقافي الواسع مع وعاء اصغر منه و هو الاسس التربوية الاسرية و التي تختلف بدورها ببعض التفاصيل ما بين اسرة و اخرى، ناهيك عن تداخل الأوعية الخارجية مع القاعدة البيولوجية لكل فرد، لنجد ان المحيط الخارجي له تأثير كبير على ظهور او انضمار بعض الجينات، فعندما نسعى نحو ادراك اوسع او معرفة امر خارج عن هذه الاسس يتطلب منا وضع quot;الاناquot; في خانة خارجية كي نستطيع تداولها لاعادة ترميمها.

ثمة من سيجد ضرورة اخلاقية في ابقاء الدين حاكماً للفكر كي يعطيه ابعاداً تتجاوز جميع الابعاد الكونية، فيبدأ اولاً بطرح عظمة الحكمة الدينية و استباقها غير البشرية في مفهوم المعرفة، لينهي بعدها خطابه التقليدي بضرورية تقييد الافراد داخل بوتقة جماعية، فنراه يسترسل في غناء واعظ لا ينتهي الا بعد مماتنا، و بما اننا ننادي بضرورة احترام اطروحات الغير و السعي الى فهم الاخر، فاننا ملزمون لسماع الافكار المتكررة المليئة بالانشاءات الادبية و التحف الاخلاقية الثابتة و العديمة لكل ما هو متجدد و الغيرملائم لازمنتنا.

دعونا نلقي نظرة الى ينبوع الدين، لنجده مرتكزاً على النشاط النفسي المؤجج للمشاعر المتعاكسة فيما بينها مثل الخوف و الطمأنينة، الرعب و الامان...عدا عن ذلك، نجد الدين خالياً من الاكتشاف فبتدوينه انغلق على المفردات و العبارات المتحكمة به، فأصبح سجيناً لها عاجزاً عن الحركة، ليتسم بصفات ثابتة، لذا لا نستطيع الاعتماد عليه لاكتشاف ما يحرك رغبتنا في معرفة الاشياء، فالتخلي عن الاكتشاف يعني التخلي عن المعرفة، لان المعرفة ناتج استكشافي، و الاكتشاف حصيلة استفسارات عدة لملاحظات و افكار شتى للواقع الخارجي، و من هذه الحصيلة تتأسس الفرضيات لانشاء النظريات فيما بعد و وضع البراهين لاثباتها في مرحلة لاحقة، لهذا علينا الاستفسارعن وسيلة للعطاء و الابداع في تحديد ركائز المتحول على اسس الثابت، اي كيفية تطبيق العلم على الركائز الدينية، و هنا تكمن المشكلة فالمتحول بحاجة الى اسس و ركائز مرنة قابلة للالغاء و الاكتساب و هذا ما يجعل الدين خارج حلبة العلم و التفكير، لهذا اجد ان المطالبة في فصل الاثنين عن بعضهما ضروري لغايات عدة تصب في خانات الابداع و الاختراع كما تهيئ لنا اجواءً اجتماعية قائمة على التبادل المشترك.

قام فلاسفة كثر باعطاء تفاسير مختلفة لحالة التفكير، منهم quot;هيومquot; الذي اعتبر ان المعرفة مستندة على الانطباعات الحسية فلا يمكنها ان تكون دقيقة لانها ناتج عن محاولات شتى للتفكير معتمدة على الاسباب و النتائج المترابطة و الناشئة من تكرار الانطباعات الحسية.

اما علم البيولوجيا اليوم فقد اعطانا شرح اوسع مما اقترحه الفلاسفة انذاك، فعلينا ان لا ننسى اثر التحليل النفسي و اعتماده على علم الاعصاب القائم على تجارب لفهم دراسة الجهاز العصبي المؤسس بدوره على بيولوجيا الدماغ، كي يعطينا مساحة اكبر في تجنب الاخطاء لنصبح اقل تعرضاً و تفادياً لها. فتبني الفرد او الجماعة اسساً ثابتة، تجعله عاجزاً عن التعلم اي بمعنى اخر؛ القضاء على احتمال تغيير المشابك العصبية لادراك اوسع ناتج عن حالة التعلم، لهذا نجد ان الانسان المنغلق على مفاهيمه يجد صعوبة في تقبل المستجدات و هذا ما يسبب التراجع الفكري لانه في حالة ثبات غير قادر على مجاراة الزمن و التغييرات الطارئة عليه، فلا ثراء في الفكر من دون التنوع المثمر و التداخل الفكري الجماعي، لهذا يحق لنا المطالبة باعادة الدين الى مكانه الاصلي اي الى (المشاعر).

لا شك ان كل منا يختلف في ادراكه للاشياء و للخارج الواقعي، لان الادراك نفسه مبني على تمثيلات عقلية مرتكزة على قناعات و تفاسير ملخصة بquot;الاناquot;، فعلينا ان نسعى دوماً نحو اعادة الحسابات الموجودة في هذا المبنى، و هذا لا يتم الا من خلال النقد و المحاولات المستمرة في تقبل الافكار المختلفة عنا و قبول الخطأ للوصول الى صواب جزئي، فالخطأ و الصواب متلازمان فهما انعكاس للمحاولات الجمة الساعية للوصول الى وعي اكبر لكل ما هوخارج عنا.