لما سُمحَ للجامعات الخاصة بالوجود في سورية حاولتْ وزارة التعليم العالي أن تحافظ على هيبتها وتستفيدَ من الانفتاح الذي رعته، فألحقت بجامعاتها الحكومية مركزَ تعليمٍ مفتوح وتعليماً موازياً بأقساطٍ أقلّ من الخاص متحدّثة عن إتاحة الفرص لمن يريدُ متابعة تحصيله الجامعي ولم يمكّنه معدّلُ درجاته في الثانوية أو قِدَمُ شهادته من التقدّم للمفاضلة العامة. الآن وقد أشرف عقدٌ أن ينتهي على هذه التجربة بدأتْ معالمها وأهدافها الربحية تنجلي. فطالبُ التعليم الموازي يدفعُ مبلغاً لابأس به ndash;بحسب أهمية الفرع- مقابل علامتين أو ثلاثة تزادُ إلى مجموعه لتتيحَ له خياراً إضافياً. إنّ مقارنة هذا الوضع مع أقساط الجامعات الخاصة وماتوفره من خدمات ليس لصالح طالب التعليم الموازي. أما استغلالُ طالب التعليم المفتوح فيبدو أوضحَ إذ مازالَ الاعترافُ بشهادته في دوائر الدولة مصدرَ جدلٍ وخلاف.

تفاخرُ وزارة التعليم العالي بخططها التوسعية وإنجازاتها التطويرية، ورغم أنّ بريقَ شعاراتها أقوى من أدائها لاأستطيع إلا الاعتراف بعطاءات دولتنا. أدركتُ ذلك عندما سافرتُ إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة إذ فوجئت في أول امتحان لي هناك بأنه كان عليّ شراء ورقة الامتحان، تلك التي لم أقلقُ بشأنها في سورية. ورغم كرم بعض الزملاء الذين تسابقوا لإنقاذي صارَ الخوفُ من نسيان شراء هذه الورقة هاجساً كل مرة. يومها شعرتُ بامتنانٍ عميق لسورية العظيمة التي منحتني شهادة مقبولة في جامعات العالم مقابلَ رسمٍ رمزيّ. لذلك عندما أتحدّثُ الآن عن الفوضى والأخطاء في جامعة دمشق التي تخرّجتُ منها ثم عدتُ إليها طالبة في مركز التعليم المفتوح إنما هو بدافع الغيرة عليها. أعترفُ بحزنٍ وأسى أني لم ألمسَ تطوراً في الإدارة والتنظيم وأنّ مارأيته هو أساليبُ استغلالٍ جديدة للشباب الحالم، وسأوردُ هنا بعضاً من مشاهداتي وتجاربي:
رغمَ الإعلان عن إمكانية التسجيل في مركز التعليم المفتوح عبر الإنترنت فإنّ واقع الشبكة في البلد والمركز نفسه جعلا الأمرَ غير يسير، وكان لابدّ من الوقوف أربعة أيام منذ الثامنة صباحاً حتى نهاية دوام الموظفين ليتمّ تسجيلي بعون الله، ولربما ساهم ضعفي بذلك إذ أنّ الله حرمني من العضلات الصلبة أو الصوت المائع فتراجعتُ دون قصدٍ إلى آخر الرتل المتنامي طولاً وعرضاً، ولو كان في الأرض متسعٌ لنصبتُ خيمة تقيني من عوامل الجوّ. وقد ولّدَ عندي ذاك الانتظارُ قلقاً وجوديّاً، فرحتُ أراقبُ جرثومة التمرّد وهي تنمو وتترعرعُ بين الجموع خائفة أن تصيبني بعدوى العصيان. فكّرتُ بذعرٍ: ماذا لو التهمتْ جراثيمنا المسؤولين في الجامعة؟ّ إننا -وهم قائمون على كراسيهم- بالكاد نتنفس ونحبو، فما يكون مصيرنا لو تركنا لأنفسنا؟! للإنصاف أقول: لقد استطاع هؤلاء المسؤولون بكل همة وعزيمة أن يحافظوا على أنظمة الفوضى وتقاليد المعاناة التي خبرتها منذ عشرين عاماً حين سجّلتُ في قسم اللغة العربية.

عند تقديم الامتحان ركضتُ نصف ساعة بين مبانى كلية الآداب والعلوم الإنسانية باحثة عن قاعتي، وشبحُ ذكرى قاسية يلاحقني إذ حُرمتُ منذ عقدين من تقديم مادة تاريخ العرب القديم لأني لم أجدَ قاعتي في الوقت المناسب. لابدّ أنّ مشاغلَ مسؤولي الجامعة تضاعفتْ كثيراً خلال هذه السنين وإلا كيف نفسّرُ مرورَ أزمنة دون أن يخطرَ ببالِهم أن يضعوا لافتاتٍ بأرقام وأسماء القاعات في كل مبنى؟! لقد ركضنا ndash;نحن الطلاب- بحيوية وصعدنا السلالمَ حتى آخرها وجفتْ حلوقنا من كثرة السؤال والقلق، لكني أشهدُ أنّ أحداً منا لم يقاوم القدرَ، بل سلّمنا -كما يُفترض بالرعايا الطيبين- أنّ رياضة الجري قبل الامتحان تنعشُ الذاكرة.

بعد الامتحان أسرعتُ إلى حمّامات قسم اللغات، فلاحظتُ أنّها جُدّدتْ والسيراميك الأبيض غطى الأرضَ والجدران. كم روّعتنا هذه الحمّاماتُ قديماً، وكم عانيتُ من المشاكل الصحية بسبب امتناعي عن استخدامها طوال سنوات الدراسة! كانت معظمُ صنابير المياه معطلة، أو دائمة الانسكاب، والأرض عائمة بالمياه الملوثة، بينما شهدتِ العباراتُ على الجدران بانفجار أمراضٍ نفسية واجتماعية. هكذا ابتهجتُ اليومَ لامتداد الأبيض وقرّرتُ أن أكتب طواعية مادة عن التطور في جامعة دمشق، لكني سرعان ماسمعتُ أحاديثَ الصبايا حولي: انصفقَ الباب الرئيسي... إنّه لايُفتح من الداخل... لقد بتنا سجينات... علينا انتظار قادمة جديدة! لعلَ البعضَ سيظنُّ أني أصبتُ الحمامات النظيفة بالعين، خاصة أنه ماكان بإمكاني أن أهتفَ داخلها: ماشاء الله!
تعلّمتُ في قسم اللغة العربية أنّ اعتمادَ المصادرِ والمراجعِ وتوثيقَ النقلِ والاقتباس والتضمين من أساسيات البحث الأكاديميّ، لكنّي رأيتُ اليومَ العديدَ من كتب الترجمة ndash;اختصاصي- تتحرّرُ من هذا العبء، وكأنّ الأستاذ يؤلّفُ رواية أو قصة من خياله. أغضبني استغفالُ طالب الجامعة والاستخفافُ بعقله، وفكرتُ غير مرة بالتصدي لهذه الكتب لكنّ يدي كانت تسبقني وتلقي بهم في سلة المهملات حالما ينتهي الفحص. ولعلّ الدهشة الأكبر انتابتني وأنا أدرسُ مادة (تدريبات في الاستماع والمحادثة باللغة الانكليزية- السنة الثالثة) إذ لم يزد مستواها ونمطها عمّا يدرسه طالبٌ في المرحلة الأساسية، ومالبثتْ دهشتي أن تحوّلتْ إلى صدمة وأنا أرى فيما بعد علامتي: الصفر!

وكوني عاهدتُ نفسي أن أظلَّ مواطنة طيبة القلب والنوايا فقد اعتبرت الدرجات العالية التي منحني إياها معظم أساتذتي في الولايات المتحدة صدقة كوني من العالم الثالث الذي يعيشُ على الحسنات، وقرّرتُ تجاهلَ مايردّدُ الطلابُ عن الظلم والفوضى في بلدي وعن أفانين الأساتذة في التعجيز والتحيير. وماالمشكلة في أن يجلسَ صفرٌ بسيط بمسكنة على يسار اسمي؟! إنّه مجرّد صفر على اليسار. لكنّ الشيطانَ إبليسَ اللعين راح يوسوسُ لي ماذا لو أنّ بصري هو الذي خانني وأنا أملأ الدوائر في ورقة الإجابة، فوضعتُ إجابة السؤال الأول للثاني وهكذا دواليك؟ ألا أكون بحاجة لمراجعة طبيب العيون؟ للتحقق من هذا الاحتمال ذهبتُ أطلبُ مراجعة ورقتي، وشبحُ تجربة مشابهة في قسمُ اللغة العربية يطاردني ويذكرني أنّ الأستاذ في موطن الديانات السماوية إلهٌ لايخطئ، وأي اعتراض أو مراجعة تعتبر إهانة له لاتغتفر.

حين دخلتُ مبنى التعليم المفتوح لاحظتُ بإعجابٍ التجديدَ فيه، وهذه المرة أسرعتُ بالصلاة على النبي قبل أن يتبدّدَ الجمالُ. فاجأني تطورٌ آخر، إذ صار يمكنُ للطالب أن يقدّمَ اعتراضاً مقابلَ خمسمئة ليرة للمادة الواحدة، وهل هذا المبلغ كثيرٌ على أنسنة أستاذ الجامعة؟! سألتُ الموظفة بفرحٍ: أأستطيعُ إذاً أن أرى ورقة إجابتي أو صورة عنها؟ قالت: لا. لكنك ستعرفين النتيجة. هنا أيضاً نخزني إبليس: أتثقين بأنّ الجامعة ستراجعُ ورقتك بينما تستمرّ بحجب الثقة عنك؟! أثار شجوني هذا اللعين. تذكّرتُ أستاذة المقالة في الولايات المتحدة. لقد أبدتْ قسوة وجفاءً تجاه شكواي من عدم فهم لهجتها في البداية، وأجابتني بصوتٍ مرتفع أمام الجميع: إن لم تفهمي لاحاجة لبقائك هنا. لكني رأيتها بعد أسبوعين تجلسُ على ركبتيها بمحاذاة كرسييّ في المخبر لتعتذرَ لي وتخبرني أني نلتُ أعلى علامة في الامتحان الأول، ثم منحتني ثقتها الكاملة سامحة لي ndash;لظرف خاص- بتقديم الامتحان النهائي قبل موعده بيومين مطمئنة أني لن أهمسَ بسؤال حتى لأقرب صديقاتي. سخر إبليس مني: أو تحلمين أن تعاملكِ جامعة دمشق بمثل ذاك الاحترام والموضوعية؟ إنك لن تعرفين أبداً إذا كانت أجوبتك الخمسين انتحرتْ أو اغتيلتْ.

كلماتُ الأستاذ وهب رومية الصريحة المتعاطفة أعانتني قديماًعلى احتمال الظلم: أعدادُ الطلاب هائلة! ومن يملكُ ضميراً منا بالكاد يتصفحُ أوراقكم. استغربتُ كثيراً اليوم حين سمعتُ أنّه ndash;وقد صار عميداً لكلية الآداب- يريدُ إلغاءَ نظام الأتمتة وإرجاعَ الامتحانات الكتابية، وهو يعلمُ كم سادتِ الرشاوي والواسطة ذاك العهدَ. أتراه لاحظ أنّ توزيع الدكتاتورية بين الأستاذ الجامعي وموظف الحاسوب لم ينجز العدلَ المطلوب عدا عن كون الأتمتة أفقدت طالبَ الأدب قدرته على الكتابة؟! أحقاً لايوجد خيارٌ ثالث ينقذنا من هذه الفوضى والفساد التعليميّ؟! أعترفُ أني دفعتُ الخمسمئة ليرة وأنا أخشى أن تعملَ الجامعة بمبدأ: اعترضوا ماشئتم مادامتِ الآذان ملأة بالعجين والخزائن تطربُ بالرنين.