لست رجل دين، ولست عالماً في أصول الدين.. لكنني لا اشك بمقدار الذرة في أن المدقق الأمين في تعاليم دينه بالعقل والمنطق لن يجد فيه ما يدعوه لتبني أو قبول أفكار التعصب الديني الشرير.. تلك الأفكار الفاسدة التي تفسد الصحة النفسية والجسدية والروحية لحاملها وتسبب المضايقات والأحزان للآخرين. ولست أشك بمثقال الإلكترون أن عقلاء هذا الدهر وهم كثر يقبلون أفكار فاسدة مثل فكر التعالي على الآخر، وامتلاك الحقيقة، وتصنيف البشر على المعتقد والهوية الدينية، وإيذاء المختلفين دينياً والتضييق عليهم في الطريق أي طريق حتى يعودوا إلى الصواب كما يظن المتعصبون دينياً، وغيرها.. لا يمكن أن ٌيعقل أن عقلاء وأصحاء هذا الدهر من كل الأجناس والمعتقدات يمكن أن يقبلوا أفكار التعصب الديني حتى ولو كان ثمن التعصب هو دخول الجنة كما يزعم المساكين من حاملي أفكار التعصب.

في الحقيقة أن المتابع لحركة التطور الحضاري العالمي يستطيع أن يلاحظ أن الدول التي نبذت كل أشكال التعصب والتمييز الديني والعرقي والمهني والنوعي وغيره قد استطاعت أن تنمو اقتصاديا وتعليمياً وتحقق أعلى معايير الصحة النفسية والجسدية لمواطنيها، وعلى العكس نجد أن الدول التي مازال التعصب متفشياً في مجتمعاتها تحولت إلى دولاً متخلفة في شتى المجالات تتجه بسرعة نحو الانحدار في هاوية الفقر والبؤس وتحقق أعلى معدلات جرائم الأخلاق والفساد حتى أصبحت عالة على المجتمعات المتحضرة.

بيد أنه من الإنصاف التأكيد على استحالة جعل كمية التعصب مساوية للصفر لا بطريقة علمية ولا بطريقة عملية نتيجة وقوع الإنسان تحت تأثير عدد كبير جداً من المؤثرات المتغيرة والثابتة والتي يكون من الصعب عادة فك الارتباط بينها.. لكن! هل يمكن تصغير كمية التعصب إلى أصغر ما يمكن حتى تقترب من الصفر باستخدام بعض التقنيات الرياضية وتطبيقاتها في العلوم الإنسانية؟

إن كمية التعصب لدى الإنسان يمكن تمثيلها بالطرف الأيمن من معادلة جبرية تحوي فئة من المتغيرات (variables) وفئة من المعاملات (coefficients). فما هي تلك المعاملات والمتغيرات التي تتحكم في كمية التعصب فتجعلها كبيرة أو صغيرة؟

لنفرض أنه أمكن تمثيل معادلة التعصب في معادلة جبرية في ثلاثة متغيرات فقط على سبيل المثال، ولنفرض أن الثلاثة معاملات الحاكمة لهذا الفكر (عدد المعاملات والمتغيرات يختلف باختلاف الأشخاص، والمجتمعات) تتمثل في الأمن القومي، حقوق المواطنة، والديمقراطية وهي جميعها خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال باعتبارها ثوابت وطنية. ولنفرض أن الثلاثة متغيرات هي الدستور، الحكومة، الخطاب الديني. أما الطرف الأيمن من المعادلة فيرمز إلى كمية التعصب الناتجة.
حسب طريقة جاوس جوردان في علم الجبر التطبيقي نجد أن حل المعادلة السابقة يعطي لكل متغير من المتغيرات الثلاثة (الدستور، الحكومة، الخطاب الديني) عدد لانهائي من القيم وبحيث تعتمد قيمة أحد المتغيرات الثلاثة على المتغيرين الباقيين حسب ترتيب حدود المعادلة.

ويكاد يكون من المستحيل الحصول على قيمة واحدة لكل متغير من المتغيرات الثلاثة وليس عدد لانهائي من القيم لأننا نحتاج في مثل هذه الحالة أن نكون معادلات إضافية بمتغيرات إضافية وثوابت جديدة حتى يتساوى عدد المعادلات مع عدد المتغيرات. ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني تكوين نظام من المعادلات وليس معادلة واحدة وهذا يدخل في مجال أشباه المستحيلات نظراً لكثرة عدد المتغيرات الحاكمة لفكر التعصب واختلافها من شخص لشخص، ومن بلد لبلد طبقاً للدساتير والقوانين والمناخ المجتمعي العام، وغيره. بالإضافة إلى عدم وجود اتفاق بشأن تحديد مفاهيم واضحة ومحددة للثوابت.

لذلك فنحن بصدد معادلة واحدة في ثلاثة متغيرات ومعاملاتها. فإذا عدنا إلى تقنية جاوس جوردان فسوف نلاحظ أنه من المفيد إعادة ترتيب عناصر المعادلة بحيث يصبح الخطاب الديني هو المتغير التابع الذي يعتمد على كل من الدستور والحكومة باعتبارهما من المتغيرات المستقلة. ولذا علينا أن نحدد مبادئ الدستور واستراتيجيات الحكومة الكفيلة بحماية هذا الدستور بالطريقة التي تضمن تغيير الخطاب الديني الشعبي ليعمل على تصغير كمية التعصب إلى أقل كمية ممكنة. ولأن الخطاب الديني يستمد غذائه من الدستور ويشحن منه بالطاقات اللازمة، ويرتوي من تصرفات الحكومة الخفية والظاهرة ويستمد منها الآليات لذلك فأولى خطوات الحل تبدأ من الدستور. فبقدر ما يكون الدستور عادلاً متوافقاً ومتجانساً مع ثوابت الأمن القومي، حقوق المواطنة، والديمقراطية وبقد ما تعمل الحكومة بالتوافق مع الدستور وليس بالاستسلام للمشاعر الدينية أو الطائفية بقدر ما يعمل الخطاب الديني في ترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية.

أعتقد أنه ليس أمامنا من طريق لتصغير كمية التعصب إلى أقل ما يمكن إلا بالحفاظ على قيم الثوابت الوطنية (الأمن القومي، حقوق المواطنة، والديمقراطية) بحيث تكون معدلات تغيرها بالنسبة إلى الدستور، الحكومة، والخطاب الديني مساوية للصفر. وهذا لن يتأتي إلا بإعادة صياغة الدستور ليخلو تماماً من أية مواد لها إمكانية تغذية وتعظيم كميات التعصب الديني، وأن تلتزم الحكومة بمواد الدستور وتعمل في اتجاه ترسيخ هذه المبادئ في الوجدان الشعبي، الأمر الذي سوف ينعكس بطريقة ناعمة على الخطاب الديني فيصب في اتجاه تقليل كميات التعصب عند الناس ويعمل على تغذية قيم المواطنة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

[email protected]