عندما داهمتنا القوة الحديثة في عقر دارنا، ولازالت بمعاصرتها هي نفسها تداهمنا في غرف نومنا، في ملبسنا ومأكلنا، في ممارستنا حتى لأدق خصوصياتنا، وباتت أكثر من ذلك أنها تحضر في لغوناتنا اليومية، القوة هذه ليست مطلقة، وإن كان لها وجه مطلق نحن نراه، من موقع من وقع عليه فعل ممارسة القوة هذه لقوتها، لا يمكن أن تكتشف القوة إلا متلبسة في ممارسة نفسها.
هذه القوة بالذات هي من جعلتنا نستقلquot; عربا عن العثمانيينquot; وهي من جعلت تركة الأتاتوركية دولا، وكيانات قائمة بذاتها، وإن كان الهيكل العثماني التنظيمي، تأثرا بهذه القوة قد قسم منطقته لولايات، ولها قوانين، ذات منشأ وضعي. لكن قوة الغرب هذه أعادت هيكلتنا بما يسمى الآن دولا عربية. بالتأكيد نحن لم نكن سلبيين ولكننا تصرفنا بما نملك من قوى، سواء كانت مجتمعة أم مبعثرة، وفق توزعات متعددة الاعتبارات، هذا الغرب هو من حمل إلينا مفهوم الإصلاح الديني، وقدمه لنا، ولكن على الأرجح..ولفترة طويلة لم يكن راغبا بحدوثه في ملكوتنا، الذي هو ملكيته. يبقى أن نقول أن هذه القوة بطبيعتها، كانت ولازالت تسمح بحكم دينامياتها الداخلية، بأن تضيف إلى دولها دول أخرى، وهذه الدول كانت ولازالت تضاف، من كل دول العالم، ماعدا دولنا العربية، ونحن هنا إذ نستخدم مفهوم الدولة، إنما نستخدمه تمييزا أجرائيا فقط، لأن الدولة كمفهوم معاصر، وتاريخي بالآن معا، لم ينوجد عندنا بعد! لازالت سلطاتنا الهجينة تعتقل نموه وتطوره، ليصبح توأم الأمة السياسية، ولكن من أين لها أن تتركه يتطور عبر استقلاليته، وكيف يستقل عن مجتمع، كونته هذه الهجانة السلطوية، وأنتجته على شاكلتها مجتمعا هجينا.
الشعب يثور، والمثقف ينظر ويثقف، لكن المحصلة يجب أن تتدستر قانونيا عبر أداتها وهي الدولة، لا أهمية لثقافة إصلاحية، ما لم تتوج بقوانين، هذه محصلة فجة، لكنها حقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا، والسياسي السلطوي يلعب بنا هنا وهناك...والسؤالquot; هل قام إصلاح ديني في تركيا وماليزيا واندونيسا وباكستان؟ هل قام إصلاح ديني لدى الأقلية المليونية المسلمة في الهند؟ هل جرى إصلاح ديني في كوردستان العراق؟ حتى إسلام دول الاتحاد السوفييتي السابقة، إسلام ألبانيا والبوسنة...هل جرى عندهم إصلاح ديني؟ رغم أن هذه الدول تشكل أكثر من ثلثي العالم الإسلامي، ولكن غير النفطي وغير المجاور لإسرائيل.
ما هي قصة هذه الأيديولوجيا التي انتشرت كالنار في الهشيم في بعضا من العالم العربي، بعد انهيار السوفييت، كما انتشرت علمانية التعصب؟
رغم ذلك، ألا يعتبر ما جرى ويجري من تفتت للمرجعية الفتوية في العالم العربي، معركة تعبر عن تبعثر في السيادة الدينية على المجتمع؟ وأليس هذا التبعثر عبارة عن مهرجان سلطوي خارج الحدث العربي الحقيقي؟ حيازة السلطة- الثروة بنفس الأساليب والطرق، والاستمرار في هذه الحيازة مهما كان الثمن،
هذا الحدث الأساس في العالم العربي.
الحداثة الموجودة ليست نقيضا مطلقا لدين لم تجري عليه عملية إصلاح، على الطريقة اللوثرية، ودون أن ننسى أنه حتى الاصلاح هنا في الغرب، قامت به قانونيا الكنيسة المسيطرة وأقصد الكاثوليكية.
الإصلاح يحتاج إلى دولة تدخلية على منوالها، أقصد دولة تدخلية مؤسساتية وقانونية، لديها مسافتها بين سلطتها السياسية ومجتمعها. المشكل في أننا لا نختلف كما أكدت أكثر من مرة على المفاهيم، نحن نختلف على الفعل السياسي لهذه المفاهيم.
إصلاح ديني في العالم الإسلامي أو إصلاح ديني في الدول الإسلامية، هل يمكن الآن أن تتبنى النخب الإسلامية في كل هذه الدول نفس مفهوم الإصلاح؟
ببساطة لا يوجد مرجعية واحدة دينية لدى سنة العالم الإسلامي، بل إن المرجعيات متعددة، بتعدد القوى الفعلية في الحقل السياسي، الكنيسة الكاثوليكية كانت مرجعا وموحدا للعالم الكاثوليكي المنتشر في دول أوروبا الصاعدة من عصر إلى عصر. وهذا ما له شبيه عند الطائفة الشيعية فقط في العالم الإسلامي.
عندما تضع تونس موانع قانونية لتعدد الزوجات، ويتقيد بها المجتمع التونسي، ماذا يمكن أن نسمي هذا الفعل؟
سيقول لي مثقفونا أن الإصلاح الديني عملية أعقد من ذلك بكثير، لكي يتسنى لهم البقاء في منطقة رمادية، بحجة العمق الفكري والفلسفي الذي تحتاجه عملية الإصلاح هذه. ثم هنالك منهم من يدعو النخب الإسلامية لكي تقوم بنفسها بهذا الإصلاح، ولكن هذه النخب الإسلامية ليست موحدة على مرجعيتها القرآنية، وطرق قراءتها وتفسيرها، والقياسات عليها. ولن تتوحد مطلقا، ولا نريدها أن تتوحد أصلا..ولماذا تتوحد؟ هل تتوحد لكي تتفق على إصلاح ديني واحد من المحيط إلى الخليج، ام تتوحد في كل دولة عربية على حدا؟
السياسة تتخللنا جميعا، والسياسة ليس فيها سلطات هجينة بل فيها أيضا مصالح دول أقوى وثقافة أقوى، نحتاجها، ولكن كيف؟ بعضنا يسميها حداثة، أو يتفرد آخرون ويسمونها ما بعد الحداثة..إنه مشروع الغرب الرأسمالي، لازال ينضدننا مصلحيا ونفطيا وإسرائيليا وسلطويا عربيا...فأين نذهب؟ ومن سيقوم بإصلاح ديني لدينا؟
سؤالي الأخير: هل سلطتنا العربية بالجملة والمفرق تحتاج إلى إصلاح ديني لكي تعيد أنتاج حيازتها للسلطة والثروة؟ على هذا الجواب يتوقف حالنا في حقل الإصلاح الديني هذا.
- آخر تحديث :
التعليقات