الساعة 06.50 بتوقيت وارسو المحلي من يوم السبت الموافق 10 نيسان \ابريل حلقت طائرة الرئيس البولندي الراحل ليخ كاتشنيكي برفقة زوجته وكبار المسؤولين في الحكومة البولندية الى مدينة (سمولنيك) حيث مجزرة كاتين التي راح ضحيتها أكثر من عشرين الف بولندي من خيرة المثقفين والقادة العسكريين على يد قوات الأمن السوفيتية عام 1940 لتضاف المجزرة الجديدة هذه الى مثيلتها السابقة في زمان فضيع ومروع ومكان لم يطقه الكثير من البولنديين بالأمس ولا يطيقه جميعهم اليوم !
لا نريد أن نتكلم هنا عن النخب البولندية التي فقدت من برلمانيين وقادة عسكريين ومثقفين،كما لا نود التطرق هنا عن حجم هذه الكارثة معنويا ونفسيا والتي تركت بصماتها على الكثيرين ولكننا نطرح سؤالا يراودنا ويشغل أذهاننا وهو ماذا لو كان الرئيس البولندي عربيا؟
لعل الشروع بالحديث عن البعدين السياسي والاجتماعي بصورة مبسطة هنا يساهم إلى حد ما بتوضيح رؤية معينة حول طبيعة بولندا وشعبها،سياسيا بولندا ذات نظام جمهوري دستوري،يجري انتخاب الرئيس فيها كل 5 سنوات وتناط اليه مهام حكومية حددها الدستور اقل شانا من تلك التي يتمتع بها رئيس الحكومة، تنقسم الحركات السياسية البولندية بين يمينية (متطرفة أحيانا ) ويسارية، الرئيس الراحل كاتشنيكي والبعض من الوفد المرافق له ينتمي لحزب القانون والعدالة الذي تشكل سنة 2001 ويمثل احد التيارات اليمنية في البرلمان البولندي. فيما ينتمي رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك إلى الحزب الديمقراطي الليبرالي ذو نبرة متمدنة واقل حدة يمينية من حزب كاتشنسكي
عرف عن الرئيس الراحل كاتشنيكي خطابه العاطفي الموجه إلى الجماهير، مستغلا الميول الديني الكاثوليكي للكثيرين باعتبار ان الكنيسة الكاثوليكية البولندية السند الرئيسي له ولأرائه التي غالبا ما تصب في مصلحتها،فهو أول من شدد على تقييد حركات المثليين الجنسيين في بولندا كما دعا اعتماد عقوبة الإعدام بحق المسيئين بعد إن ألغيت في بولندا أسوة بدول الاتحاد الأوربي والتي انضمت الأخيرة اليه سنة 2004.
اجتماعيا،الشعب البولندي من الشعوب ذات الحس الوطني العالي فهي بذلك تختلف عن الكثير من البلدان الأوربية التي اضمحل فيها تدريجيا مفهوم الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية،لاعتبارات كثيرة أخذت للعولمة والاستقرار بشقيه الاقتصادي والسياسي الحيز الأكبر منها، أضف إلى الوعي السياسي والاجتماعي الذي يتمتع به غالبية الإفراد،مما أدى إلى انقسامهم بين مؤيد لليمين وأخر لليسار ولكن ما الذي دعا البولنديون إلى الوقوف صفا واحدا عقب سماع هذه الفاجعة؟
استطلعت أراء الشارع البولندي وكانت شبه متقاربة من حيث تلاحمها و انعدام الفجوات الكبيرة فيها، وهذا ما راءيناه جليا حتى في خطاب الرئيس البولندي الحالي برونيسلاف كوموروفسكي ( وكالة) في كلمته التي وجهها لشعبه حيث جاء فيها ( لا نملك اليوم سياسة يمين او يسار كلنا واحد نقف إزاء هذه الفاجعة)، سالت باولينا (طالبة في جامعة وارسو) التي لا تتفق الى حد بعيد مع آراء الرئيس كاتشنيكي حول تلقيها خبر وفاته فأجابت (لعل حزني على كاتشنيكي ورفاقه الذين لقوا حتفهم هناك لا يوصف مع إنني معارضة له فكريا ! ولكن مهما يكن كان يمثل بولندا ).
فيما ترجمت مونيكا رد فعلها بنبرة حادة نمت عن شعور عال بالمسؤولية عن السبب الذي دعا جميع المسئولين في الحكومة إلى السفر بطائرة واحدة! هذا فيما علق الشاب يارسواف متشائما (سنشعر بخسارة هؤلاء بعد وقت ليس بالبعيد)، الرئيس كاتشنكي والوفد المرافق له ودع بولندا بطائرة بولندية،روسية الصنع، وعاد بطائرة أخرى وبوضع أخر مختلف تماما عن الذي حلق به،فمن كان بالأمس رئيسا او مسؤولا هاما في حكومة توسك وارث ثراه اليوم.
اذن الشعور العالي بالمسؤولية والانتماء الحقيقي للوطن وحد أراء الشعب البولندي، هذا ونشرت إحدى أشهر صحف بولندا المحلية (كاسيتا فيبورجا) مقالا تحت عنوان (الحزن يوحد البولنديين) برهن حقيقة وحدة هذا الشعب.
أخذت رأي والدي يوما حين كنت في الثامنة من العمر عن مدة العزاء الذي سيقام لو ان صدام حسين مات،فأجابني بجملة ذكية جدا (بوية يمكن راح تصير أسبوعيين، هذا اذا مات !!،و بعدين ابنه عدي يستلم السلطة) ان هذه الإجابة وضعت في مخيلتي وأنا طفل ان العائلة الصدامية ستظل حاكمة للعراق الى ابد الآبدين،فان مات صدام سيحل عدي وان مات فقصي وهكذا تسير الحلقة،وبهذا لا مناص من الخروج من هذه المحنة،ولكن ما ان دخلت الجيوش الأمريكية وإلا وودع العراق دكتاتورية حمقاء ساهمت وتساهم لحد ألان بمأساة شعبنا العراقي الجريح،واليوم وبالرغم من ان العراق يمر بهذه الأوضاع المأساوية الغير مستقرة إلا إن التفاؤل طاغ علينا جميعنا، أملين ان تترك الديمقراطية بصماتها الجميلة على خارطة العراق السياسية مستقبلا.
ان الأوضاع الأمنية المتدهورة اليوم في العراق تبعث فينا شعور موحد نطالب به بالاقتداء والسير على خطا سياسيو بولندا الذين تركوا الخلافات جانبا وتفرغوا لرص الصفوف وتقريب وجهات النظر، لذا نطالب ممن صوت لهم شعبنا العراقي بالأمس ان يعملوا على تشكيل حكومة عراقية بأسرع وقت ممكن حفاظا على أرواح الأبرياء الذين يسقطون كل يوم ضحايا الإرهاب،في الشارع والمنزل على حد سواء، وليس الانشغال بالمزايدات السياسية على حساب هؤلاء الذي تحملوا جميع مآسي الأمس واليوم ولبوا دعواتكم حين توجهوا الى صناديق الاقتراع غير هيابين الموت من اجل مستقبل أفضل.
في الدول الديمقراطية يخدم الحكام شعوبهم اما في الدول ذات السلطة الجائرة يجري العكس فالمواطن يخدمها،فأيا من هذه الدول سنختار أيها السادة المسؤولين الأفاضل!!
وبالانتقال إلى الصعيد العربي نتسأل ماذا عن مصر؟؟ فلنتوقع أن حسني مبارك يودع الجماهير المصرية فجأة ما هو شكل الشارع المصري؟؟ أو فلنتصور إن ما حل بالرئيس البولندي يحل بمعمر القذافي او بشار الأسد؟؟ بالتأكيد ستحدث فوضي عارمة وتسيب كبير على المستوى العام لهذه البلدان،لأنها حكامها فاقدين الشرعية القانونية،فهم يتولون مناصبهم بالوراثة ولا يعطوها ألا بالوراثة!!
لم يحدث اي خلل على المستوى البولندي،سوى إعلان الحكومة الحداد الوطني لمدة أسبوع واحد كما وقف الشعب البولندي الأحد دقيقتي صمت حدادا على أرواح ضحاياهم،وعزى الأخير نفسه وآسى عوائل الضحايا بهذا المصاب الجلل وغرق في حزن ذاهل بجنب نيران الشموع المتقدة وعبق رائحة الورود المركونة أمام القصر الرئاسي في وارسو.
وارسو..ابريل
التعليقات