في صيف عام 2006 زار وزير الداخلية السيد جواد البولاني عمان، وأراد أن يلتقي بمجموعة من العراقيين المقيمين في الأردن، ليطلعهم على ما أنجزته حكومته في مجال المصالحة الوطنية. (لم يكن خلافه مع رئيسه نوري المالكي قد اشتعل بعد). فدعانا السفير سعد الحياني إلى لقاء خاص مع السيد الوزير في مبنى السفارة.

كان عددنا عشرين أو يزيد بقليل. كنا جميعا عراقيين، أولا وقبل أية صفة أخرى، أي أننا كنا من غير الطائفيين ولا العنصريين، أو - بعبارة أدق - كنا مجموعة من العراقيين المتحضرين الذين تجاوزوا ترهات الموجة الجديدة التي جاء بها معهم زعماء العراق الجدد من الخارج.

أسهب الوزير في سرد إنجازات حكومته بشأن المصالحة التي كان يكرر باستمرار أنها (وطنية)، وكنا جميعا منصتين صامتين، إلى أن انتهى من حديثه الطويل. عندها عرض استعداده للرد على أسئلتنا وتعليقاتنا، فكنت أنا المتحدث الأول.

قلت: ثق، أيها السيد الوزير، بأننا، نحن المحيطين بك هنا الآن خارج الوطن وفي داخله، شيعة وسنة، عربا وأكرادا، مسلمين ومسيحيين، نعمل معا ونسهر، نأكل ونشرب، ويشارك بعضُنا بعضا أفراحَه وأتراحه، ونجاحاته وإخفاقاته، متوحدين متحابين متفاهمين متعاونين متآزرين. نحن، أيها الأخ الوزير، متصالحون، بكل ما تحمل كلمة (مصالحة) من معنى، تصالحوا أنتم يا أهل السياسة والحكم والمحاصصة، لنكون نحن ويكون وطننا بألف خير.

لم يعجبه كلامي، رغم أنه همس في أذني، وهو خارج من بوابة السفارة: أحسنت.

أنفق السيد المالكي ملايين الدولارات، ودبج أنهارا من الأخبار والمقالات، وأطلق أكداسا من التصريحات، وأنشأ وزارة كاملة (وزير ووكيل وزارة ومدراء عامون وأفراد حماية وموظفون ومراسلون ومؤتمرات وجولات ومفاوضات) من أجل تلميع تلك المصالحة.

ولكن وبعد مرور أربع سنوات على إطلاقها تبين أن أصحابها لم يكونوا جادين في إنجازها ولا صالحين لتحقيقها.

ولو كانت هذه المسخرة قد حدثت في دولة أخرى تحترم نفسها وشعبها لحوكم المالكي وطاقم وزرائه ومستشاريه، بتهمة إزعاج السلطات وإقلاق راحة المواطنين وأهدار المال العام على مواضيع وهمية عابثة.

فالحكومة التي لم يتمكن وزراءها من منع مؤامرات بعضهم على البعض الآخر، ولم يستطيعوا وقف اتهامات الواحد منهم لشقيقه الآخر بالعمالة والخيانة والفساد ورعاية الإرهاب، هي حكومة فاشلة، وتستحق القصاص العادل، دون تأخير.

والذي يشفع لشعبنا العراقي الشهم الذكي أنه فهم الغاية من تلك المصالحة، فأهملها وتجاوزها منذ البداية، وحكم على أصحابها بالغش والخداع، وعلى أحكامها وقواعدها بالفشل، رافضا، بقوة وإصرار، كل ما يصدر عن أؤلئك السياسيين المتكالبين على السلطة، حتى لو جاءتهم على يد الشيطان نفسه، وعلى طبق من دماء مواطنيهم المساكين.

وها نحن، بعد كل الزمن الصعب الذي مر على تلك الزيارة، وبعد أن خرجنا من الانتخابات الأخيرة بخُفَيْ ُحنين، وكنا نعول عليها الكثير من الآمال، تأكد لنا أن داءنا عصي على الشفاء، وأن حلمنا بمصالحة المتقاتلين على الكراسي مجرد وهم غير قابل للتحقيق، وأن تلك المصالحة (الوطنية) كانت لعبة من ألاعيب أهل السلطة، لا تقل بشاعة عن لعبة (أبو طبر) و(الحنطة المسمومة) التي اخترعتها مخابرات المرحوم، لكي يصبح في إمكان السيد رئيس الوزراء أن يزعم بأن موكب سيادته مزدهر بعمائم ويشامغ وطرابيش وسدرارات، من جميع الأحجام والألوان. فهي لم تكن تعني طي صفحات الاحتراب الطائفي والعنصري والمصلحي بين أرباب السلطة، ولم تكن تعني، فعليا وجديا، فتح صفحة جديدة من الوئام والوفاق الوطني، بلا تهميش ولا اجتثاث ولا استثناء لأي من العراقيين، مهما اختلفت مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم وأديانهم.

والمؤكد الذي نراه اليوم، بعد كل ما تمخض عن الانتخابات الأخيرة، أشد ظلاما مما كنا فيه قبلها. فقد بشرنا جميعهم، وهم يتهيأون لخوضها، بالفردوس والأمن والعمار ونهاية الفساد ورحيل الاحتلال.

لكننا اليوم، بعد انتهائها وظهور نتائجها البائسة، أشد فقرا وأكثر خوفا، والوطن أكثر خرابا وفسادا، وبدل المحتل الأمريكي الواحد صار لدينا احتلالات كثيرة من كل جنس ومن كل دين. ألا ترونهم يتقاتلون من أجل الوزارة بالمفخخات والشتائم والتهديد والوعيد؟. ليس تهديدا كلاميا عابرا يطلقه المتحاصصون على عواهنه، بل هو حقيقي لا شك فيه. فلو وقعت رقبة المالكي بيد علاوي، ورأس علاوي بكف نوري المالكي، والمالكي بيد مقتدى، والحكيم بيد الهاشمي، وصولاغ بيد صالح المطلق، وجلال بيد مسعود، ومسعود بيد جلال، لسالت الدماء ولمُلئت الأرض لحما وعظاما، ولتحولتجثث العراقيينطعاما للكلاب السائبة التي تكاثرت في شوارع الوطن السليب هذه الأيام.

اليوم فقط تأكد لنا أن أية مصالحة بين رؤساء الجماعات والجبهات والتيارات التي خاضت الانتخابات واحتكرتها وهيمنت على صناديقها، بالحق وبالباطل، مستحيلة.

فنوري الماكي ممسك بشُبّاك رئاسة الوزارة، بكل ما أوتي من قوة وعزم ومستشارين ومممولين، مُقسما بكل الأيمانات الغليظة أنه لن يدعها تذهب لغيره، (ليش هو يقدر ياخذها حتى ننطيها إله؟؟).

وأياد علاوي يهدد بالويل والثبور وخراب البيوت إذا ما شكل المالكي الوزارة وتجاوزه.

ومقتدى الصدر، المدان بالقتل وبالسطو المسلح وإزعاج السلطات والناس والدين، ومحازبوه الجهلة الحمقى، يستفتون أنفسهم وأتباعهم في شخص رئيس الوزرء القادم، ويضعون شروطهم التعجيزية ومواصفاتهم لمن يرونه صالحا لقيادة الوطن، و(طز) بالانتخابات، و(طز) بنتائجها وأبطالها.

ورئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء ومستشاروه ومساعدوه، ووزير الدفاع ومعاونوه، ووزير الداخلية وخبراؤه، ووزير الخارجية وسفراؤه، ورئيس أركان الجيش وقواته، ورئيس المخابرات وجواسيسه، ومستشار الأمن القومي ومخصصاته، ورئيس الائتلاف الوطني وكل المتحالفين معه، ورئيس القائمة العلمانية العراقية وزعماء تيارتها المتآخية تحت عبائته، ورئيس كردستان، والبيش مركة، والشرطة الوطنية، جميعهم صامتون وكأن على رؤوسهم الطير، لا يهشون ولا ينشون، خوفا من مقتدى ومليشياته، أو طمعا في رضاه، وهو صاحب الـ 40 مقعدا في البرلمان، وهو الأقوى داخل الإئتلاف.

السؤال المهم هنا، أية مصالحة وطنية يا جماعة، وأية ديمقراطية، وأي دستور، وأي برلمان؟ هل يستحق هذا الوطن العزيز كل هذا الهوان، وكل هذه المهازل المضحكة المبكية؟، وهل طاح حظ العراق إلى هذه الدرجة، يا رجال الوطن الديمقراطي الجديد؟؟