الطرق المعنوية التي يسلكها الإنسان أو الاتجاهات الفكرية التي يؤمن بها لا يمكن أن تقف قبال فطرته التي فطره الله تعالى عليها، والتي يصل من خلالها إلى الدليل على وجود قوة عليا تكون حاكمة عليه ويكون خاضعاً لها، بحيث يتفرع ذلك على اعترافه من أن للعالم صانعاً ومدبراً وإن اختلف نوع التصور الذي يذهب إليه، ويمكن إسناد هذا الاتجاه إلى قانون العلة والمعلول الذي جعل إيمان الإنسان يبنى على عبادة الكواكب والظواهر الطبيعية، حتى أخذ هذا الاعتقاد يدخل تدريجياً إلى الأهواء المختلفة التي لجأ بسببها إلى عبادة الأصنام، دون النظر إلى نظام الفوقية الذي كان ملازماً لفطرته المجردة عن التبعية السابقة وإن شئت فقل بسبب تقليد الأبناء للآباء، كما بين القرآن الكريم هذا الواقع في قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) الزخرف 22. (مقتدون) الزخرف 23.


من بعد هذه المقدمة يمكننا القول إن هذه الأفكار انتقلت من العصور الأولى إلى عصر التنزيل، وهذا ظاهر في اعترافهم الذي أشار له تعالى بقوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) لقمان 25. وقريب منه العنكبوت 61-63. وبطبيعة الحال فإن هذا النهج لا يختلف كثيراً عن النهج المتبع لدى المذاهب الإسلامية التي افترقت بين التشبيه والتعطيل وغيرهما من الصفات التي نسبت للخالق جل شأنه، ومن الأدلة على ذلك ما ذكر في الصحيحين من [أن الله خلق آدم على صورته] أو كما في رواية أحمد [على صورة الرحمن] وهذا الحديث ما زال محل اختلاف بين فرق المسلمين والتفرعات العلمية التي تنتهجها المذاهب الفكرية، علماً أن بعض هذه المذاهب لا يميل لصحة هذا الحديث، وبعضهم أخذ الجانب الايجابي منه، دون التعرض للتجسيم الذي تمسك به جمع من الناس باعتباره أحد الحجج التي تؤيد السلوك الذي يدخل ضمن المناهج الشرعية.


وعند تقسيم هذه الاتجاهات تكون خلاصة الأمر المتبع في صحة الحديث الذي أشرنا إليه أقرب إلى الغموض، والحقيقة أن الحديث لا غبار عليه وهو من الأحاديث الصحيحة والمتفق عليها ولا يحتاج إلى كثير من التأويل، حيث أن الله تعالى جعل في آدم وذريته مجموعة من الاستعدادات التي تفتقر إليها المخلوقات الأخرى وإن اشتركت مع الإنسان في نفس الصفات الخارجية. فإن قيل: ما وجه الجمع بين قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) الشورى 11. وبين الحديث الذي ذكرته؟ أقول: لا يمكن القياس بين الآية وبين الحديث، لأن المثال لا يقتضي التشابه من الوجه الأدنى الذي لا يعتمد الملازمة المادية أو المعنوية في اللفظ، حيث أن الأخذ بالملازمة يكون أقرب من تشبيه العلم بالبحر، وأنت خبير بعدم التلازم بينهما، مع التسليم بصحة المثال فتأمل. من هنا يظهر أن المراد من خلق الله تعالى لآدم على صورته لا يقتضي المماثلة، إلا أن المجسمة وجدوا من ظاهر الحديث ما يتفق ونهجهم في نسبة الجوارح إلى الله تعالى.


ولهذا ظهرت بعض الإضافات في الحديث، ولا يخفى على المتأمل من أن المراد بالصورة يكون أقرب إلى الصفات التي جعلها الله تعالى في الإنسان، كالعلم والحياة والسمع والبصر، مع مراعاة إمكانها قياساً مع واجب الوجود جل شأنه. وقد لا يخفى على المتأمل من تضمن الصفات الإنسانية للقيود التركيبية التي ينزه عنها الحق سبحانه. من هنا نعلم أن نقل القدرة التي خص الله تعالى بها بعض الأنبياء والأولياء تأخذ هذا الاتجاه، دون الدخول إلى فلسفة تلك التغيرات التي صرح بها القرآن الكريم حكاية عن عيسى (عليه السلام) وذلك في قوله تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله) آل عمران 49. وكذا قوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني) المائدة 110.


والمتأمل في الآيتين يجد أن القيد الملازم لخلق عيسى للطير لا يخرج عن الإذن الإلهي، وكذلك الإشارة إلى الطين الذي لم يأت به عيسى (عليه السلام) وإنما هو من خلق الله تعالى. وهذا المثال الذي أنزله الله تعالى في كتابه المجيد والذي يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة، لم يوضع للتبرك أو العبثية، بقدر ما هو موضوع لإظهار المنهج الإلهي في نقل القدرة للإنسان الذي تتوفر فيه شروط الاستعداد للفعل الذي يريده الحق تبارك وتعالى. من هنا يظهر الدليل على أن الله تعالى قد أمد الإنسان بأسباب الخلق مع امتناع الأصالة التي ترد إليه سبحانه دون خلقه، علماً أن هذه الأسباب تتفرع إلى فرعين أحدهما يلازم الإعجاز، وثانيهما يكون خاضعاً للتجارب العلمية، التي لا يشترط فيمن يأخذ بها أن يكون من المخلصين، بقدر ما يحتاج إلى العلم الذي يتوصل من خلاله إلى اكتشاف النتائج التي اتبع أسبابها أو مقدماتها، وهذا ما خفي على ابن آدم حين أراد أن يدفن أخاه، حتى بعث الله غراباً أرشده إلى هذه المهمة، كما في قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين) المائدة 31.


وفي الآية دليل على أن السماوات والأرض مليئة بالأسباب التي تجعل الإنسان يتوصل من خلالها إلى فتح أسرار الكون، ومن هذه الأسباب ما توصل الإنسان إلى حل رموزها ومنها ما خفي عليه، وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) يوسف 105. وكذا قوله: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون) الأنبياء 32. وما ذكر في الآيتين وغيرهما يتفرع على العلم الذي فُضل به الإنسان على سائر المخلوقات، مما جعله يتوصل إلى ما هو عليه، وبهذا يثبت صحة الحديث الذي بين فيه النبي (ص) من [أن الله خلق آدم على صورته] حيث أن هذه العلوم التي بين أيدينا لا يمكن التوصل إليها إلا بأخذ الأسباب التي أوجدها الله تعالى، والتي أشار إليها بقوله: (ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) البقرة 282. وكذا قوله تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم) العلق 5. وقوله: (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة 151. فإن قيل: ماذا عن التجارب التي تجرى على الإنسان مما يؤدي إلى التحكم في مركباته؟ أقول: المادة التي يعتمدها العلماء لا يمكن أن تأتي من عدم، فإذا توفرت تلك المادة فلا مانع من الإيجاد الذي هو من خلق الله تعالى، وهذا ما قرع به إبراهيم (عليه السلام) قومه عندما كانوا يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، حيث قال لهم كما نقل القرآن ذلك في قوله تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون***والله خلقكم وما تعملون) الصافات 95-96. وفي الآيتين مباحث:


المبحث الأول: قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: قوله تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون) فيه حذف، أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا، فقال محتجاً: (أتعبدون ما تنحتون) أي أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنّحت النجر والبري، نحته ينحته بالكسر نحتاً أي براه. والنُّحَاتة البُرَاية والمِنحَت ما ينحت به. (والله خلقكم وما تعملون) (ما) في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعني الخشب والحجارة وغيرهما، ويضيف القرطبي: وقيل: إن (ما) استفهام ومعناه التحقير لعملهم. وقيل: هي نفي، والمعنى وما تعملون ذلك لكن اللّه خالقه، والأحسن أن تكون (ما) مع الفعل مصدراً، والتقدير واللّه خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة: أن الأفعال خلقٌ للّه عز وجل واكتسابٌ للعباد. وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [إن اللّه خالق كل صانع وصنعته] ذكره الثعلبي. وخرّجه البيهقي من حديث حُذَيفة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إن اللّه عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه.


المبحث الثاني: قال البقاعي في نظم الدرر: ولما كان من المعلوم أنهم كلموه في ذلك فطال كلامهم، وكان تشوف النفس إلى جوابه أكثر، استأنف الخبر عنه في قوله: (قال) غير هائب لهم ولا مكترث بهم لرؤيته لهم فانين منكراً عليهم: (أتعبدون) وندبهم بالمضارع إلى التوبة والرجوع إلى الله، وعبر بأداة ما لا يعقل كما هو الحق فقال: (ما تنحتون) أي إن كانت العبادة تحق لأحد غير الله فهم أحق أن يعبدوكم لأنكم صنعتموهم ولم يصنعوكم. ولما كان المتفرد بالنعمة وهو المستحق للعبادة، وكان الإيجاد من أعظم النعم، وكان قد بين أنهم إنما عبدوها لأجل عملهم الذي عملوه فيها فصيرها إلى ما صارت إليه من الشكل، قال تعالى مبيناً أنه هو وحده خالقهم وخالق أعمالهم التي ما عبدوا في الحقيقة إلا هي، وأنه لا مدخل لمنحوتاتهم في الخلق فلا مدخل لها في العبادة: (والله) أي والحال أن الملك الأعظم الذي لا كفوء له (خلقكم) أي أوجدكم على هذه الأشكال (وما تعملون) أي وخلق عملكم ومعمولكم، فهو المتفرد بجميع الخلق من الذوات والمعاني، ومعلوم أنه لا يعبد إلا من كان كذلك لأنه لا يجوز لعاقل أن يشكر على النعمة إلا ربها.


المبحث الثالث: يقول الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: ﴿قال أتعبدون ما تنحتون***والله خلقكم وما تعملون) فيه إيجاز وحذف من حديث القبض عليه والإتيان به على أعين الناس ومسألته وغيرها. والاستفهام للتوبيخ وفيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الإنسان بيده أن يكون ربا للإنسان معبودا له والله سبحانه خلق الإنسان وما يعمله والخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الإنسان ومن السفه أن يترك هذا ويعبد ذاك. وقد بان بذلك أن الأظهر كون ما في قوله: ﴿ما تنحتون﴾ موصولة والتقدير ما تنحتونه، وكذا في قوله: ﴿وما تعملون﴾ وجوز بعضهم كون ﴿ما﴾ فيها مصدرية وهو في أولهما بعيد جدا. ولا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الإنسان أو إلى عمله لأن ما يريده الإنسان ويعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الإنسان واختياره ولا يوجب هذا النوع من تعلق الإرادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الإنسان وخروج الفعل عن الاختيار وصيرورته مجبرا عليه، وهو ظاهر. ولو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم وأفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا وتقبيحا، وكانت الحجة لهم لا عليهم. انتهى كلام الطباطبائي.


فإن قيل: ما وجه الجمع في ألفاظ آية سورة لقمان آنفة الذكر التي جمعت بين اعترافهم بالخالق وبين عدم علم أكثرهم؟ أقول: قوله تعالى: (بل أكثرهم لا يعلمون) أي لا يعلمون نوعية الاعتراف التي صدرت منهم عند سؤال النبي (ص) المفترض لهم، وهذا الاعتراف ما يزال قائماً إلى اليوم في المناهج المتبعة لدى فرق الضلال التي تدعي عدم معرفة الله تعالى، ثم تثبت وجوده بطرق أخرى، وذلك بنسبة الصفات الثبوتية إلى معبوداتهم مع فارق التسمية فتأمل.


عبدالله بدر اسكندر المالكي

[email protected]