الخطاب الذي ألقاه الملك الأردني عبد الله الثاني يوم الثلاثاء الثامن من يونيو الحالي في ذكرى يوم الجيش الأردني و الثورة العربية الكبرى، لم تعهد الساحة السياسية والاجتماعية الأردنية صراحته الجريئة هذه، التي تعودت على الخطاب الذي لا يوضح الحقائق بقدر ما يضيعها أو يخفيها،وأحيانا استقواء بعض المسؤولين على الحقائق المعاشة نفسها بتهديد خفي أو علني، منطلقين من مفهوم خاطىء غشّاش وهو أن النقد العلني في وسائل الإعلام تشويه لصورة البلاد، دون أن يدركوا أنه في ظل عولمة الإعلام صار من السهل أن ينتقل أنين عجوز أردنية في أقاصي البادية إلى كافة الفضائيات المرئية والمسموعة الناطقة بكل اللغات بما فيها الصينية غير المفهومة إلا في الصين، إلا أنها مفهومة ومقروءة من مليار وربع المليار من البشر.
وأعتقد أنّ صراحة الملك هذه غير المسبوقة نابعة من إحساسه ويقينه من التشاؤم والخيبة التي تسود الشارع الأردني من عدة ظواهر، أغلبها غريبة ودخيلة على المجتمع الأردني الذي يوصف عند البعض بالعشائري أو القبلي، متناسين التقاليد العشائرية التي سادت قرونا دون أن يشهد المجتمع هذه الظواهر، لأن هذا المجتمع العشائري منذ خمسينات القرن الماضي، أنتج ما يفتخر به الأردنيون والعرب في مجال التعليم الجامعي والمؤسسات الطبية، حيث شكّلت الجامعات والمستشفيات الأردنية مقصد نسبة عالية من الطلاب والباحثين عن العلاج العرب، خاصة جامعات مثل الجامعة الأردنية، وجامعة العلوم والتكنولوجيا، وجامعة فيلادلفيا وغيرها، ومؤسسات طبية في مقدمتها المدينة الملكية الطبية. وبعد هذه الظواهر المخيبة لآمال وتطلعات الشعب الأردني، جاء خطاب الملك وكأنه يقول للجميع: شعبا وأحزابا ومؤسسات وأفرادا: استيقظوا...إلى أين أنتم ذاهبون وإلى أين ستوصلون وطنكم في هذه الظروف الصعبة والخطيرة في العالم كله؟. على ماذا ركزت صرخة وصراحة الملك عبد الله الثاني:
العنف الأسري والمجتمعي
هذه الظاهرة التي استشرت وتصاعدت في السنوات القليلة الماضية، أعطت بصراحة صورة مرعبة عن الشارع الأردني جعلت البعض يخاف من فتح المواقع الإليكترونية الأردنية كي لا يصاب بارتفاع في ضغط الدم أو الجنون من أخبار مثل: قتل أخ لأخيه، اعتداء الطلاب على المدرسين، واعتداء المدرسين على الطلاب، واعتداء أهالي المرضى على الأطباء، واعتداء المواطنين على رجال الأمن والعكس أيضا. والأخطر كما قال الملك صراحة هو أن يتحول اعتداء من شخص على شخص أو قتله، إلى حرب داحس وغبراء جديدة بين عشيرتي القاتل والضحية،تتطور لدرجة استفار قوى الأمن بشكل وكأنها ذاهبة لساحة حرب، وهي ساحة حرب فعلا وليس كأنها. المثير لغضب العقلاء هو احياء تقاليد غير منطقية مثل (الجاهة)و( الجلوة) وهي الأخطر لأنها تعني اجلاء عشيرة القاتل من المنطقة التي فيها عشيرة الضحية ومحيطها. ليس كافيا قول الملك عبد الله الثاني: ( إنّ الدولة قادرة وفي أية لحظة على ضبط الأمور وتطبيق القانون على الجميع، ولا يوجد أحد أقوى من الدولة ) رغم أهمية البدء بتطبيق ذلك فورا، ولكن السؤال المهم هو: ما هو دور المثقفين والسياسيين وأعضاء الأحزاب خاصة ذات التوجه الإسلامي من هذه الظواهر؟ ألا يوجد في كل عشيرة العشرات من هذه الفئات؟ لماذا لا يقومون بالتوعية الداخلية بين أفراد عشائرهم من أنّ أخذ حقك بيدك هو مخالف للقانون والأخلاق والشريعة الإسلامية؟. لماذا لا ينزل هولاء للشارع الأردني بين أفراد عشائرهم لبث روح المحبة والتسامح وأهمية تطبيق القانون بعيدا عن هذه التقاليد التي أصبحت من علامات ومؤشرات الدول الفاشلة؟. علينا أن نحترم تقاليد العشيرة لأنها من سمات المجتمع الأردني، لكن تقاليد العشيرة الأصيلة هي كما قال الملك:(كانت على الدوام ركيزة أساسية في بناء المجتمع،ورديفا وسندا للمؤسسات الرسمية والأمنية في الحفاظ على الأمن والاستقرار، وكانت دائما رمزا لكل القيم النبيلة والانتماء لهذا الوطن).
كنت وما زلت أتمنى وأنا أتابع ظاهرة ومهنة إصدار البيانات التي صارت وظيفة لبعض الكتاب والسياسيين الأردنيين، لو انهم أصدروا بيانات توعية حول هذه الظواهر التي شوهت صورة المجتمع الأردني في الداخل والخارج. كنت أتمنى وما زلت لو شكّلوا وفودا منهم لزيارة مضارب وأماكن تجمع القبائل بالتنسيق مع زعماء العشائر للتوعية بين المواطنين حول عدم أخلاقية وقانونية هذه الظواهر. كنت وما زلت أتمنى لو أنّ الأحزاب ذات التوجه الإسلامي وشيوخ ودعاة الدين وخطباء المساجد، يستنفرون جهودكم الفقهية والشرعية ليذهبوا ويحرثوا هذه الأرض العشائرية، ويغرسوا فيها قيم المحبة والتسامح قائلين للكل: توقفوا إنكم بهذه الممارسات تسيئون للدين الإسلامي والقيم المجتمعية الأخلاقية. توجد دولة ومؤسسات رسمية هي المسؤولة عن معاقبة المذنب والقاتل والمعتدي، أما منطق غوار الطوشة الذي يقول( حارة كل من إيدو الو) لا يتناسب مع العصر وسعينا لدخول عالم الدول المتقدمة. فهل يتحرك هولاء لدعم توجه الملك الذي يستدعي بصراحة أيضا تحرك سريع لمؤسسات الدولة الأمنية والقانونية لفرض الأمن، وتسريع تنفيذ الأحكام بحق القاتل والمعتدي ليعرف أهل كل ضحية أن القانون فوق الجميع والكل سينال حقه أو جزاءه بالسرعة المطلوبة.
الوحدة الوطنية وفزاعة الوطن البديل
هذا الموضوع نالته صراحة واضحة وجريئة من الملك خاصة أنه خضع في الفترة الماضية للمزايدات والاستعراضات الكلامية من فريق سعى بقصد لضرب الوحدة الوطنية الأردنية من خلال الحديث البغيض عن أصول الأردنيين، والمثير للبكاء أو الضحك أنّ بعض هولاء من المحسوبين على اليسار والماركسية التي لا تفرق بين مواطن وآخر حسب زعمهم اللينيني. ولكن المثير للإعجاب والفرح أنّ هناك آخرون واجهوهم بقوة وشجاعة مؤكدين على تهافت هذه الأطروحات، فالأردن هو لكل الأردنيين بغض النظر عن المنابت والأصول، وفي هذه اللحظة الحرجة جاءت توضيحات الملك صريحة في كلمات قليلة: ( لن نقبل ولا تحت أي ظرف من الظروف بأي حل للقضية الفلسطينية على حساب الأردن، ولن يكون للأردن أي دور في الضفة الغربية. ومن المؤسف وبسبب تعثر العملية السلمية يجد هذا الكلام من يروج له عندنا في الداخل بقصد أو بغير قصد، وربما بعضهم موجود معنا الآن، ويجعل منه وسيلة للمزايدة، وتحقيق بعض المصالح الشخصية أو الشعبية العابرة، خاصة ونحن على أبواب الانتخابات النيابية). ومن الملاحظ في هذا السياق ومنذ سنوات طويلة أن بعض كبار المسؤولين الأردنيين تصبح له شخصية ومواقف جديدة بعد تركه أو اقالته من المنصب، بحيث من الصعب أن يتعرف هو شخصيا على الشخص السابق الذي كانه.
ويعلم كافة الفرقاء إذا حكّموا العقل وابتعدوا عن المزايدات الشخصية والمصلحية وظاهرة ( خالف تعرف) بأنه من المستحيل تطبيق مقولة الوطن البديل التي يستعملها فريق منهم فزّاعة لبث الفرقة وروح البغضاء بين أبناء الشعب الواحد. إنّ تطبيق فزاعة الوطن البديل يلزمها كما قلت مرارا توفر عاملين. الأول خيانة الشعب الفلسطيني بمعنى تنازله عن وطنه التاريخي أو الذي يطالب به ضمن حدود عام 1967 والقبول بوطن في مكان آخر سواء كان الأردن أم جزر الواق واق، وهذا مستحيل القبول به من غالبية الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة. والثاني هو تخاذل الشعب الأردني وقبوله بإعطاء وطنه الأردن لشعب آخر، وهذا مستحيل. لذلك فالوطن البديل بمعنى قيام الدولة الفلسطينية في الأردن والتنازل عن دولة فلسطينية مستقلة في فلسطين من المستحيلات، أيا كانت القوى التي تنظّر لذلك وتدعمه، فليكف دعاة الفرقة والتشرذم عن ترديد هذه الفزاعة المتخيلة في أذهانهم فقط، وقد قطع الملك الشك باليقين في تأكيده ( ولن يكون للأردن دور في الضفة الغربية)، وبالتالي لم يعد هناك أي مجال لمزايدات سواء كان اسمها (دسترة قرار فك الارتباط ) أو غيره، لأن قرار فك الارتباط كان من المرحوم الملك حسين عام 1988 بناءا على رغبة فلسطينية عربية لتثبيت الكيانية الفلسطينية، بمعنى أنّ الضفة الغربية لم تعد جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية بل من الدولة الفلسطينية المستقلة كما ريدها ويقبل بها الفلسطينيون دون غيرهم.
أعتقد أنّ صراحة الملك عبد الله الثاني تتطلب ما يدور في ذهنه وورد في خطابه وأهم ذلك: البدء بتطبيق القانون على الجميع بدون هوادة أو مجاملة مما سؤدي لتراجع العنف الأسري والعشائري، وضمان انتخابات قادمة نزيهة كما وعد، كي تتوقف هذه الفوضى الخطابية للأفراد والتجمعات والنضالات الإنترنتية، ويتفرغ الجميع لبناء دولة المؤسسات التي تضمن حقوق الجميع بمساواة نزيهة دون اعتبار المنابع والأصول، وصولا لأردن عصري يدخل عالم الدول المتحضرة، وهو يملك إمكانيات ذلك من شخصيات وقيادات كلها من أبناء العشائر، فهؤلاء أبناء العشائر الذين بنوا الجيش الأردني والجامعة الأردنية والعديد من الجامعات والمؤسسات الثقافية والعلمية، والمدينة الملكية الطبية وعشرات المستشفيات المتخصصة، ينبغي أن لا يرضيهم ممارسات بعض أفراد عشائرهم كي لا تطغى على كل هذه الإنجازات. خطاب ملكي صريح وجريء والشعب بكل منابعه وأصوله ينتظر...والكرة في ملعب الشعب بعشائره وأحزابه وفعالياته السياسية والاجتماعية والثقافية كي يحددوا ماذا يريدون لوطنهم وأين سيتجهون بسفينته؟.
[email protected]
التعليقات