في العقد الأخير من حكم النظام العراقي السابق تجلت أساسيات وآليات مهمة في أدوات حكم الدكتاتور صدام حسين وحزبه الذي أعاد تشكيله الفكري والهيكلي بعد نجاحه في انقلاب تموز 1979م على الرئيس الأسبق احمد حسن البكر وتصفية المئات من رفاقه في القيادتين القطرية والقومية ومجلس قيادة الثورة وفروع الحزب باتهامهم بالخيانة العظمى والتعامل مع دولة أجنبية ( سوريا )، لكي يبدأ برنامجا فكريا وسياسيا وسلوكيا ادركناه جميعا ورأينا تناقضاته وميكافيليته والمأسي التي انتجها وما يزال حتى يومنا هذا.
ولعلنا نتذكر قبل ولوج العقد الأخير كيف كان هذا النظام يعتمد أو ينمي شرائح منتقاة من المجتمع ويعمل على تكثيفها وتطويرها وتقريبها لكي تصبح جزء من النظام ومؤسساته، فقد اعتمد في النصف الثاني من السبعينات على مجاميع من المقاولين ورجال الأعمال ( ومعظمهم من كبار الضباط والموظفين الذين احالهم على التقاعد لأشغالهم وربطهم بعجلته ومنعهم من القيام بأي نشاط معادٍ له)، ومن ثم في عقد الثمانينات من القرن الماضي على فئة العسكر وتحديدا الضباط ومن تم صنعهم بتلك الدرجة بمواصفات حزبية أو مهنية كما في شريحة ضباط ما كان يعرف بــ ( الموس أو النائب ضابط حربي ) أو ضباط عضو الفرقة ومعظمهم كانوا من مراتب الجيش والشرطة (عرفاء ورؤساء عرفاء ونواب ضباط ومفوضين ) إما ضباطا يستخدمون في الاستخبارات العسكرية أو أجهزة الأمن أو مسؤولي التوجيه السياسي في وحدات الجيش، وقد تم استخدامهم مع مجاميع من الضباط الصغار بشكل انتقائي في اختراق المؤسسة العسكرية التي بدأوا بتحويلها الى جيش مؤدلج ( عقائدي ) تدريجيا ومن ثم الانقلاب عليها وتصفيتها لصالحهم وهذا ما حدث فعلا خلال عشر سنوات تقريبا أي من تموز 1969م ولغاية عشية الحرب العراقية الإيرانية، وكذا فعل باجهزة قوى الامن الداخلي سواء في الشرطة او الامن والمخابرات الوطنية، حيث تم اختراقها من خلال منتسبين ومفوضين تمت ترقيتهم الى ضباط شرطة وامن ومخابرات على خلفية درجاتهم الحزبية وولاء عشائرهم.
وفي تلك الفترة أي فترة الحرب مع ايران تحول الضابط أو المتطوع في الجيش وتحديدا الحرس الجمهوري إلى ميني مليونير أو كما كانت تطلق عليه المتداولات الشعبية على شكل سؤال لئيم يقول:من يريد أن يكون ملكا فليتطوع ضابطا في الجيش العراقي؟
وبالتأكيد كانت هناك مجاميع من الرفاق الخبراء من الدول المناهضة للامبريالية والرجعية أو منهما معا كون النظام كان يتعامل مع المجموعتين في آن واحد، خصوصا وان الهدف لدى شريحتي المقاولين والضباط والنظام هو ذاته في ما يتعلق بكيفية تحشيد الشباب وصناعة القيادات العسكرية الصغيرة ومجاميع التجار التي تديم أوار الحرب وديمومة وصول السلاح والعتاد من مصانع هؤلاء الحلفاء من كلا الطرفين.
بعد حرب الخليج الأولى بدأ نجم الضباط يتهاوى وبالذات بعد هزيمة أم المعارك التي قادتها الولايات المتحدة ومعظم دول الجامعة العربية وفي مقدمتهم الدول الثمانية ( دول الخليج + سوريا ومصر ) إضافة إلى المملكة المغربية، حيث انكفأ هذا المكون المهم في الجيش والمجتمع إلى موظف هامشي وصل في أواخر سنوات الحصار إلى أن يعمل سائق تاكسي ليسد رمق عائلته. في تلك الفترة كان النظام قد اعد الخطة لاستبدال تلك الشريحة بشريحة أخرى تحل محلها وتتمتع بامتيازاتها، بعد أن أدرك مدى إفلاسه وضآلته بين مفاصل المجتمع والأهالي، خصوصا وقد خرجت خلال اقل من شهر أكثر من عشر محافظات من تحت سيطرته بعد هزيمته النكراء في حرب الكويت، حيث بدأ بالتقرب من العشائر وشيوخها واستبدال منظومته الفكرية والسلوكية بما يتوافق ونهج تلك المرحلة ومن ثم الارتكاز على العشائر ومكوناتهم الاجتماعية من خلال فتح دائرة مهمة في ديوان الرئاسة متخصصة بشؤون العشائر وشيوخها وامتيازاتهم ومعاشاتهم واستبدال الشيوخ وتصنيفهم وتصنيع أجيال وموديلات جديدة منهم؟
وبعد أن انجز النظام مجاميع واجيال محدثة من ( شيوخ التسعينات )* وهذه التسمية اطلقها الشارع العراقي في تلك الفترة وما تلاها في توصيفه لتلك المجاميع من الشيوخ ذوي الموديلات ذات المواصفات المطلوبة من النظام ( وهي بالتأكيد تختلف عن موديلات 2003م وما تلاها حتى ظهور الاجيال المعدلة والمطورة جدا في الانتخابات العامة للدورتين 2005م و 2010م !؟ )، التفت صدام حسين منتصف هذا العقد ( التسعينات ) الى القيادات الحزبية في الفرق والشعب والفروع والمكاتب وامتيازاتها المادية والمعنوية حيث حلت خلال فترة وجيزة محل شريحة الضباط وأصبحت أكثر وحشية في ولائها للقائد وحزبه من خلال تلك الامتيازات المالية*.
كانت هاتان الشريحتان وثالثتهما المقاولون في سبعينيات القرن الماضي ثلاثيات البعث وفنتازياته الميكافيلية في تقريب وإبعاد الحلفاء والمكونات الاجتماعية، حتى جاءت مرحلة ما بعد عام 2000م التي أيقن فيها صدام حسين بأنه سيُضرب لا محالة من قبل التحالف الدولي لتجاوزه الخطوط الحمراء، فعمل من اجل بناء ثلاثية أخرى ربما تديم مواصلته أو تعينه على إبقاء العراق ضمن سيطرته وسيطرة حزبه، وهذا ما بدأ النظام ومؤسساته في العمل عليه بداية في الاتصالات السرية الدقيقة مع قوى القاعدة النائمة في العراق والحاضنة له من تنظيمات وتجمعات ما اطلق هو نفسه عليهم تسمية ( الوهابية والسلفية )* وبالذات مع أولئك الذين تعامل معهم أيام غزوه للكويت أو الذين تعاونوا معه ممن كان يطلق عليهم ( البدون ) بعد تحريرها.
لقد كانت هناك أقسام مهمة في غاية السرية والكتمان من ضمن أجهزة المخابرات العراقية، تمد قنواتها باتجاه القاعدة ومنظماتها سواء في أفغانستان أو إقليميا في المنطقة العربية أو إيران، ثم تطور ذلك أكثر إلى خلاياها في أوربا وأمريكا، كما سربت بعض وسائل الإعلام الأمريكية بعد حوادث 11 سبتمبر، حيث كان النظام يخطط مع منظماته الحزبية والإعلامية خارج العراق، وتحديدا في دول مثل اليمن وليبيا والجزائر والى حد ما تونس والعمال المصريين في أوربا والدول العربية، وبالذات بعد عام 2000م على اختراقهم إعلاميا وتنظيمهم في ايهامات جهادية مدفوعة الأجر والمعاش في ( الدنيا والآخرة ) لتهيئتهم لمهام مستقبلية غير بعيدة في العراق أو غيره من الساحات، بعد أن أيقن النظام ورأسه من إصرار الحلفاء على إسقاطهم وإنهاء حكمهم، إضافة الى شريحة أخرى بل ورقة أخرى كانت بيد النظام ورئيسه وهي شريحة المجرمين في السجون العراقية ( وهم بحدود الـ 300000 ) سجين، فيهم من عتاة الاجرام في القتل والسرقة والاغتصاب وزنا المحارم وغيرها، إضافة الى إن البعض من دول الجوار التي كانت تحتجز المئات ممن يسمون بمتجاوزي الحدود في كل من الأردن ولبنان وسوريا، إضافة الى المحكومين بتهريب الأسلحة والمخدرات، والذين أطلق سراحهم عشية الاحتلال الأمريكي للعراق مقابل تعهدهم بالعمل كمقاومين ومجاهدين لقوات الاحتلال الأمريكي من قبل سلطات إحدى تلك الدول، وفعلا وصل الكثير من هذه المجاميع الى الحدود العراقية السورية وتم إدخالهم الى العراق من قبل مخابرات تلك الدولة.
لقد تم استثمار وتوظيف كل ذلك من خلال الخزين المالي الذي يتجاوز عشرات المليارات من الاموال المستثمرة خارج البلاد في شركات ومؤسسات وهمية ومستعارة في حقول التجارة والعقارات والنفط والمصارف اضافة الى المليارات التي تمت سرقتها من قبل عائلة الدكتاتور وقيادات حزبه ومؤسساته الخاصة والكثير من رجال عسكره الخاص وما تم سرقته ونهبه بعد انهيار النظام واحتلال البلاد في ما سمي بالحواسم التي اباحها رئيس النظام قبل هروبه في خطاب متلفز، لقد شكلت هذه الاموال والاسلحة والمقتنيات وسائل مهمة جدا في اختراق مفاصل الدولة الجديدة وفعالياتها السياسية ومؤسساتها الدستورية وبالذات مجلس النواب ومفاصل العسكر والامن الداخلي، واصبحت الخزين الاستراتيجي والممول الاعظم لكل الحركات الارهابية التي يطلق عليها البعض بالمقاومة والتي انتشرت في البلاد نتيجة الاخطاء الفادحة التي وقعت فيها ادارة برايمر وقوانينها المرتجلة والتي خلطت فيها الاوراق وحرقت الاخضر واليابس وانتجت لنا بعد ما يقرب من اربعين عاما من القهر والظلم والطغيان سبع سنوات عجاف!؟
* وقد تحولوا هم انفسهم مباشرة الى برايمر والجنرال ديفيد بتريوس بعد سقوط النظام واحتلال البلاد حيث اشتغل معظمهم في مقاولات اعطيت لهم من قبل الدائرة المدنية والاعمار في الجيش الامريكي.
* متوسط دخل الموظف الشهري لا يتجاوز ثلاثة آلاف دينار عراقي بينما كان عضو قيادة الفرقة يتقاضى اكثر من خمسين الف دينار والشعبة 75 الف دينار- سعر صرف الدينار اواسط التسعينات كان بحدود 3000 دينار للدولار الواحد.
* في الثمانينات وابان الحرب مع ايران كان النظام يتبنى النهج الوهابي، ثم انقلب عليهم بعد هزيمة الكويت ليتقرب من المرجعيات الشيعية في العراق وايران.
التعليقات