ستكون لحظة تاريخية فارقة، ستكون هذه اللحظة عنوانا لحلم، وتجسيدا لنضال مقاوم على المستوى الحربي وعلى المستوى السلمي، وستكون لحظة الحقيقة التي كر وفر منها الجميع.
سوف يرث الفلسطينيون إسرائيل بعد أكثر من عقد أو عقدين أو حتى خمسة عقود، هكذا تشير الدلائل الديموغرافية منها والسياسية وربما العسكرية، والكتب التي ألفت عن نهاية إسرائيل لا تأتي رجما بالغيب، وإنما تصدع بحقائق الوجود والتاريخ.
وإذا كان تقرير الاستخبارات الأمريكية السي آي إيه ndash; المنشور مؤخرا - يشير إلى نهاية إسرائيل في العام 2020 فإنه تقرير متعجل قليلا، أو ربما كان تقريرا لاختبار النوايا وردود الفعل، ولنمهل الزمان وقتا أطول كي يزول هذا الكيان المصطنع استعماريا ربما في العام 2030 أو ما بعده بقليل.
كما أن رأي بيرنار غرانوتييه- بأن (اسرائيل سبب محتمل لحرب عالميه ثالثة) يبقى في محله، وستكون نتائج هذه الحرب مدمرة وأولها تدمير هذا الكيان.
إن الحقائق التاريخية تثبت أن أي كيان استعماري مصيره إلى زوال، هكذا رأينا الكيانات الاستعمارية تتساقط تباعا في العصر الحديث منذ نهايات الحرب العالمية الثانية في مختلف أرجاء العالم، في آسيا، في إفريقيا في أمريكا اللاتينية، في العالم العربي والشرق الأوسط، ولم يتبق سوى هذا الكيان الصهيوني الذي يتوسط العالم العربي، محاصرا بثقافة غير ثقافته، وبجغرافيا ليست له، وبتاريخ عربي مديد.
وعلى الرغم من استقواء هذا الكيان بالدول الكبرى في نشأته أو في تمدده، من بريطانيا إلى روسيا إلى الولايات المتحدة إلى الدول الغربية، فإن حقائق الأرض والتاريخ والجغرافيا تفترض ذوبان هذا الكيان في المحيط العربي الذي يحيط به من جميع الجهات.
وبعيدا عن المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة وهي مفاوضات غير متكافئة بين طرف مغتصب للأرض الفلسطينية يستقوي بالدول الكبرى وبين طرف آخر لم يعد له من مسمى سوى أنه quot; سلطة فلسطينيةquot; تعادي طرفا فلسطينيا آخر هو quot; حماسquot; فضلا عن معاداة فصائل فلسطينية أخرى، وبعيدا عن الصور الإعلامية والتليفزيونية وحفلات الاستقبال التي تجهزها أمريكا- أوباما لهذه المفاوضات التي لن تسفر عن شيء لأنها تجرى في عهد أحد أسوأ المتطرفين الإسرائيليين: بنيامين ناتانياهو الذي ينفذ أكبر مشروع استيطاني لدولة الاحتلال، ويعمل دون ضجيج على تهويد مختلف الأراضي العربية المحتلة، بعيدا عن ذلك كله، وعن التمنيات الصغيرة العابرة في وقف بناء مسكن، أو في إلغاء معبر من معابر التفتيش، أو في صرف منحة دولارية أمريكية، فإن التأمل في التاريخ القادم بشكل يقرأ المرحلة التي قد تستمر لعقود هو الأمر الأجدى من كل هذه المفاوضات المزعومة التي أثبتت أن طريق أوسلو أو متاهة أوسلو ليست هي خارطة الطريق.
فالفلسطينيون سوف يرثون إسرائيل المرعوبة مما تسميه بquot; الشيطان الديموغرافيquot; تبعا لتعبير أحد النخب الإسرائيلية، فوجود أكثر من مليون ونصف عربي من فلسطينيي العام 1948، ووجود أكثر من أربعة ملايين فلسطيني فيما تبقى من أراضي فلسطين المحتلة يشكل مأزقا حقيقيا لوجود إسرائيل، ووجود دولة ذات قومية يهودية أوإسرائيلية خالصة. وهي مرعوبة من تحديد مسألة الهوية، كما يذكر الدكتور والباحث رشاد الشامي المتخصص في الدراسات العبرية في كتابه:quot; إشكالية الهوية في إسرئيلquot; يقول: quot; مشكلة الهوية من المشاكل التي تسبب إزعاجا لليهود منذ أكثر من قرنين من الزمان. لقد عاش اليهود في أرجاء الشتات اليهودي، وخاصة في كل من غرب وشرق أوروبا ووسطها في إطار منعزل عن المجتمعات التي يعيشون فيها في أحياء خاصة بهم عرفت باسم(الشتتل) (المدينة الصغيرة) أو (تحوم هموشاف) (تخوم الاستيطان اليهودي) في شرق أوروبا وباسم (الجيتو) في غرب أوروبا ووسطها. وقد عمق هذا النمط من الحياة الإحسا س لدى اليهودي بأن هذا الانعزال هو درع الأمان للحفاظ على الطائفة اليهودية وشريعتهاquot;.
وإسرائيل مرعوبة أيضا من الهجرة العكسية، ومن حالة الشتات الجديدة التي يعيشها يهود الداخل، ومن نفي مفهومquot; الدايسابوراquot; فالمشتتون في الخارج لا ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها وطنا قوميا لهم، بل منهم من ينكر وجود إسرائيل لأن ذلك غير مكتوب في quot; التوراةquot;، كذلك فإن إسرائيل تعتمد على دعاية المقيمين خارجها من اليهود وعلى تبرعاتهم المادية والعينية في أوروبا وأمريكا، وهذا الاعتماد يشكل ضربة للمشروع الصهيوني حيث تحول الشتات إلى واقع مركزي، فيما تحولت دولة(أرض الميعاد) إلى هامش يحيا على التبرعات والمعونات العينية والمادية والدعاية الإعلامية.

لقد كذبت الوقائع والأحداث التاريخية هذا العالم الطوباوي الذي شكله الصهيونيون الأوائل، فلم تصبح إسرائيل دولة يهودية خالصة، ولم تقدم quot; مجتمعا مثاليا متميزا عن طريق التسامح والعدل الاجتماعيquot; .. بتعبير هرتزل ومحيت الفكرة التي بشرت بأن دولة اليهود سوف تصبح بمثابة سويسرا صغيرة في قلب الشرق الأوسط، أو مملكة السماء على الأرض، وخاضت دولة الكيان الصهيوني سبعة حروب مع العرب، ونفذت مذابحها الإجرامية المتتالية، وهي اليوم مهددة ndash; وبعيدا عن بعض اتفاقيات السلم الهشة- بحروب قادمة لن تكون كمثيلاتها السابقة إذ أصبحت مدنها وسكانها في مرمى الصواريخ العربية وحربها الأخيرة مع حزب الله اللبناني صيف 2006 كانت موجعة لها بقدر ما كانت موجعة للبنان. وخلفت رعبا كبيرا لسكانها المغتصبين.
فضلا عن ذلك فإن إسرائيل تتآكل داخليا في الصراع بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، وبين الأحزاب الدينية الصهيونية الأرثوذكسية مثل المزراحي، والمفدال، وتامي، وموراشا، ميماد، والأحزاب المسيحانية الأشكنازية مثل: أجوادات يسرائيل، وعمال أجوادات يسرائيل، وأجوادات يسرائيل الأورشلمية، وديجل هتوراه (علم التوراة) والأحزاب السفاردية، وشاس (حراس التوراة السفارديم) والقوى الدينية الحريدية المعارضة للصهيونية وكلها أحزاب دينية تعادي بعضها البعض من جهة وتعادي علمانية الدولة من جهة ثانية.
وفي ظل تنامي الأحزاب والحركات الدينية اليهودية المتطرفة في إسرائيل الذي تجلى بدءا من العام 1967 فإن فشل الحركة الصهيونية في توقعاتها بات ماثلا للعيان، يقول إمنون روبنشتاين عن فشل حزب العمل والصهيونية الاشتراكية التي قادت إسرائيل خلال المرحلة (1948-1977):quot; يجب أن ننظر بعيون مفتوحة إلى فشل (حركة العمل) في خلق مجتمع مثالي، وشعب مختار وزعيم عالمي. إن حجم الفشل نابع كذلك من حجم الطموح اليوتوبي.. ولم يعد الاستيطان يقوم بدور طلائعي وقائد، في ظل الواقع الجديد الذي نشأت فيه بروليتاريا مدنية مرتبطة بالمدينة، معظمها من أبناء الطوائف الشرقية، وانتهت بالفشل محاولة منح مضمون جديد اشتراكي لفكرة (الاختيار) و(رسالة شعب إسرائيل). (عن رشاد الشامي: القوى الدينية في إسرائيل- عالم المعرفة، الكويت 1994).
كما أن الصراع يحتدم بين الصهيونية العلمانية وبين المعسكر الديني المتطرف، أو بين العلمانيين والدينيين خاصة في مسألة الهوية، وإذا كان الحديث قد جرى بعد اغتيال رابين (نوفمبر 1995) وبعد انتخابات 1996 عن (الصراع الثقافي) وعن تغيير شكل الدولة، وعن الصراع بين (تل أبيب والقدس) فإن الشعب المقيم في إسرائيل الآن ليس مجرد كتلتين سياسيتين أو رؤيتين ثقافيتين بل هما شعبان لكل منهما هويته ومعتقداته ومفاهيمه الخاصة. الشعب الأول: هو الذي يمثل الطائفة اليهودية التي تتناقض معتقداتها مع ضرورات الأمة المستقرة والتي ترغب في العيش في سلام مع جيرانها، وهي طائفة ليست ديمقراطية لأن الشريعة الدينية والديمقراطية أمران متناقضان، وأبناء هذا الشعب هم أولا يهود، وبعد ذلك إسرائيليون، أما الشعب الآخر فقد ولد في إسرائيل مؤمنا بأنه أمة عبرية ndash; إسرائيلية.. تتعاطف مع السلام مع الفلسطينيين ومع جيرانها، وينظرون إلى نموذج الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية تؤمن بالتعددية وذات قانون صارم في الفصل بين الدين والدولةquot; (رشاد الشامي: إشكالية الهوية في إسرائيل).

سوف يرث الفلسطينيون إسرائيل خلال العقود الثلاثة أو الأربعة القادمة، وسوف تقام دولة فلسطينية كبرى متطورة، فالفلسطينيون بارعون في البناء وفي حقل الأعمال، ومنهم رجال أعمال ناجحون في مختلف البلدان، وهم ذوو مستوى عال في التعليم بمختلف مراحله، سوف يرثون هذا التقدم العلمي والصناعي الذي كان موجودا لدى الكيان الإسرئيلي والذي صنعته له أمريكا وروسيا والدول الأوروبية، ومن هنا ستكون فلسطين من أخطر وأهم الدول العربية في العقود المقبلة.
ليس هذا من قبيل التمنيات، أو من قبيل أضغاث الأحلام، ولكنه أمر واقع مبني على حقائق التاريخ والجغرافيا والوجود.