يستقبل العرب والمسلمون في أرجاء المعمورة خلال أيام شهر رمضان المعظم، وهو شهر القرآن والخيرات والبركات، وشهر الصيام والقيام، وشهر ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
وقد أحسن عرب هذه الأيام استقبال هذا الشهر الفضيل، حيث حولوه أولا من شهر هجري إلى شهر يرفل بالتقويم الميلادي، حتى يتماشى مع الموضة العالمية للتقاويم، حيث تطلق عليه الفضائيات العربية مسمى:( رمضان 2010م) وهي تسمية ترضي جميع الأطراف عربا ومسلمين وغير مسلمين، فالتقويم الهجري غير منتشر، وهو تقويم غير مودرن، بل يشير إلى الصحراء والبداوة وحساب القمر، والناس المودرن اليوم تحب التقويم الميلادي، فهو تقويم منتظم، وفيه أعياد الميلاد، والكريسماس، وبه يؤرخ المسلمون والعرب كتبهم ووقائعهم التاريخية والشخصية.
قلت لقد أحسن عرب هذه الأيام استقبال رمضان، فتحول إلى quot; رمضان اسثماريquot; فضائي، أكثر من خمسين مسلسلا دراميا تبث دفعة واحدة على أكثر من 500 قناة عربية، استقطبت هذه المسلسلات كل النجوم العرب وغير النجوم، فوقف جنبا إلى جنب الفنان القدير، ونجم الشباك، والممثل المبتدىء، والفنانة المبتدئة، والكومبارس، بيوت فنية كثيرة فتحت بأجور بسيطة لا يحلم بها أي مفكر أو عالم أو مثقف ndash; والعياذ بالله- في عالمنا العربي، أجور تتراوح بين 3- 14 مليون جنيه مصري، أو من نصف مليون دولار إلى 2.5 مليون دولار أمريكي بالتمام والكمال للفنان العبقري الملهم الذي سيدعو له المشاهدون بطول العمر، وطول الثراء، وطول التمثيل. يا خبر أبيض ndash; كما نقول في مصر- كل دي أجور تمثيل، طيب ماذا لو كان الأمر حقيقيا؟!!
طيب.. شهر رمضان تحول هنا أولا إلى شهر المسلسلات، وطبعا يحتاج المشاهد إلى خريطة زمنية كي يستطيع مشاهدة معظم هذه المسلسلات، وسيكون البطل الأول هنا هو ريموت التليفزيون، لا المسبحة، ولا سجادة الصلاة، ولا حتى السواك.
ومن جميل فعل العرب أيضا نشر هذا العلم الفولكلوري الموروث المسمى بquot; الفوازيرquot; في شهر القرآن، فبدلا عن طرح الفوازير السياسية: مثل فزورة : قضية فلسطين بين السلطة وحماس، أو فزورة الانتخابات العراقية، أو فزورة عملية السلام، أو فزورة دارفور والصومال وأفغانستان، ستطرح فوازير كليلة ودمنة، وشهرزاد وشهريار، وفوازير الشخصيات الكريمة المعاصرة: المفتش كرومبو، وست نفيسة، وبوجي وطمطم، وفوازير ميريام فارس :quot; أنا مين؟؟!!quot;.
وطبعا الفوازير تخاطب العوام، وبالتالي ستكون الأسئلة في متناول طبقات الشعب الكادحة، وسيكون الموبايل هنا هو البطل الأول حيث تتواصل عمليات الاتصال المخفضة غير المجانية، وتصل تكاليف المكالمات إلى الجهات المعنية: شركات الاتصالات، وجيوب رجال الأعمال والمستثمرين الرمضانيين.
ومن خطط استقبال رمضان الكريم أيضا إقامة ما يسمى بquot; الخيم الرمضانيةquot; في الفنادق، والمنتجعات، والكازينوهات، والقرى السياحية، حيث تقدم هذه الخيم الفطور والسحور بأسعار في متناول الطبقات الغنية، مصحوبة بالغناء الراقص، بدلا من العشاء الراقص الذي كان يقدم في الشهور الأخرى. وهذا أمر تحمد عليه الفنادق والمنتجعات لتخفيف آلام الصيام، وأوجاع الجوع والعطش التي مر بها الصائمون أثناء نومهم طيلة النهار.
هكذا يستقبل العرب اليوم شهر رمضان، وهو استقبال يليق بعصرنا الراهن، بدلا من quot; دوشة الدماغquot;، والسؤال حول : تجديد الخطاب الديني، أو تهذيب الفتاوى، أو السؤال حول طبيعة الكون والحياة والإنسان، والتأمل في الوجود، والسياحة العقلية ما بين الخالق والمخلوق. فهذه ndash; والعياذ بالله- أمور منكرة، تؤذي العقل والروح، وتدخلنا إلى مجال تهافت الفلاسفة.
شهر رمضان اليوم هو شهر عصري، ولم يعد شهر الصيام أو القيام، أو التدبر، والتفكر، ولم يعد شهر القرآن، ولا شهر الإنسان، بل أصبح شهر الفضائيات و المسلسلات والفوازير والخيام، وشهر الاستثمار في الدنيا.
رعى الله العرب، وحفظ لنا الفضائيات، والممثلين، والمخرجين، والمنتجين، ورجال الأعمال، والمشاهدين بالمرة.
وكل عام وأنتم بخير!!