يتسنى للباحث في الشأن الفكري الديني السعودي أن يقع على ظاهرة جلية ملموسة، تمظهرت في السنوات العشر الأخيرة بشكل ملفت وجاذب، هذه الظاهرة شكلها مجموعة من شباب الصحويين الذين اكتشفوا أن الأيديولوجيا المنغلقة بمختلف صورها لا يمكن أن تأتلف مع هذا العصر الذي تتقارب فيه الثقافات بفعل العولمة، وتتلاقى فيه القيم الإنسانية التي هي نتاج حضارة، ونتاج عقل ووعي معرفي بالعالم.
لقد شكلت مجموعة من الأسماء التي تعالج الفكر الديني بالسعودية هذه الظاهرة. إن أسماء مثل: منصور النقيدان، مشاري الزايدي، مجاهد عبدالمتعالي، خالد الغنامي، وعلي الرباعي، وتركي الدخيل، وياسر العمرو، وعبدالله ثابت، وعبدالله بجاد العتيبي ومعهم مجموعة من الأسماء الأخرى التي تكتب ببعض الزوايا الصحفية بالصحف اليومية تشكل اليوم حالة من حالات المراجعة لبعض الأفكار والفتاوى والآراء التي جسدها رواد الصحوة السعودية الذين استشرت أفكارهم وآراؤهم الأيديولوجية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، مركوزة على فكر حنبلي تمت قراءته في صيغته المتشددة، وعلى فتاوى لابن تيمية تمت قراءتها في غير عصرها وفي غير مكانها.
وكنت كتبت من قبل في مقالتي :quot; السعوديون لا خوف عليهم ولا هم يحزنونquot; التي نشرت هنا بإيلاف عن ظواهر التشدد في الحياة الاجتماعية، وهي ظواهر كانت تخويفية ترهيبية أكثر منها حضارية، وأثبتت تحولات الأيام، وعادات الإنسان في التكيف والتأقلم مع منجزات الحضارة بطلانها. وهو ما تأكد لهؤلاء المرتدين عن الصحوة التي كانت أكثر انغلاقا، وأكثر عزلة، وأكثر ارتدادا ونكوصا عن قيم العصر، و التي شكلت معظم آراء وكتابات كبار الشيوخ سنا أدبياتها العامة والخاصة على السواء.

لقد شكلت الحوادث الإرهابية التي جرت بالسعودية ( 1996-2004) والتي طالت الأبرياء من المواطنين والمقيمين عربا وأجانب، نقطة تحول كبيرة لدى شباب الصحوة الذين رأوا كيف أن هذا الخطاب الديني الراديكالي المتشدد جر الناس إلى أفعال غير إنسانية تأتي على خلاف ما يأمر به الدين الإسلامي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الجدال الحسن، والدعوة إلى طريق الرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة. وأيقن المرتدون عن الصحوة أن وحدة الوطن، وقيم الإنسانية وقيم الانتماء أغلى من الذهاب إلى الحور العين على خشبة الموت، أو تحت ظلال المقابر. كما أدركوا أن قيمة الحياة أغلى وأهم من الدخول في أنفاق الغيبيات التي لا يعلم مصيرها إلا الله وحده، وأن الوصاية على الإنسان لا تجدي، وأن فعل الكبائر أمر طبيعي للرجوع إلى أفق التوبة، وأن الخير والشر عنوانان للحياة الإنسانية، وأن الملائكة تحيا هناك في العالم الآخر لا على كوكب الأرض، وأن الدين شيء ولعبة السياسة شيء آخر، وأن الله جميل يحب الجمال في الروح، والإنسان، وفي الفن والإبداع، والكتابة، والشعر، والرواية والرسم والنحت، والرقص والموسيقى، والمسرح والسينما، والعلم، والحضارة، ولا يحبه في إطالة اللحية، أو في حف الشارب، واستخدام المسواك فقط.
هكذا ارتد هؤلاء الشباب عن الصحوة التي أدخلتهم في غفلة لا سابق لها، مستثمرة الحماس الكامن في الصدور، والغيرة القوية من لدن الشباب على الدين الإسلامي الذي صور على أنه مهدد من قبل الغرب والشرق، وأن المؤمرات تحاك ضده ليل نهار، مع أن الرسول الكريم يقول:quot; إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبهquot;.
ووجد المرتدون عن الصحوة المجال واسعا ومفتوحا أكثر من ذي قبل للكتابة عن تجاربهم الصحوية الماضية، واحتضن الإعلام السعودي خاصة الصحافة والمواقع الالكترونية هذه الأسماء،فعلى سبيل المثال يكتب مشاري الزايدي في الشرق الأوسط، ومنصور النقيدان في الوطن ثم الرياض، وخالد الغنامي في الوطن، وعلي الرباعي في الحياة، ومجاهد عبدالمتعالي في عكاظ، وتركي الدخيل في الوطن، كما يقدم برنامج:quot; إضاءاتquot; على قناة العربية وفيه استضاف مختلف التيارات الفكرية خاصة هذا التيار المرتد عن الصحوة.
وطوال السنوات الماضية كانت جل كتابات هؤلاء وغيرهم تركز على قراءة التجربة الماضية، وكيف كانت مواقفهم أكثر تشددا، وكيف كانوا يخرجون في سبيل الله، ويفارقون بيوتهم للنوم في المساجد، أو الخروج للدعوة إلى الله، وكيف كانوا يحرقون أندية الفيديو، وكيف كانوا يضيقون على العلمانيين والحداثيين ويتحرشون بهم في الندوات العامة، لكن هذه الكتابات رغم قيمتها الروحية والاجتماعية والإنسانية وقعت في النمطية والتكرار، وأصبحت لا تغري القارىء العام الذي يريد أن يقدم هؤلاء صيغا ورؤى أكثر تأسيسا لخطاب ديني جديد يقرأ الواقع، ويقدم صيغا أكثر قربا من المجتمع، وأكثر دفعا لتطوير الفكر والعقل الإسلامي.
سوف يكون المستقبل لهؤلاء المرتدين عن الصحوة، ومن هنا فإن سؤال المستقبل ndash; خاصة وإن أغلبهم في العقد الرابع والخامس- سيكون معلقا برقبة ورؤوس أقلامهم وأفكارهم، بعد أن خاضوا تجارب نفسية قاسية أثمرت عن هذا التراجع الأيديولوجي، ويبدو أنهم بدأوا يدركون هذا السؤال حين أصدر ثلاثة منهم كتبا تحمل رؤى جديدة مغايرة، حيث أصدر خالد الغنامي كتابه:quot; جواز صلاة الرجل في بيتهquot; وأصدر مجاهد عبدالمتعالي كتابه:quot; سياط الكهنوتquot; كما أصدر علي الرباعي كتابه:quot; الصحوة في ميزان الإسلامquot; وهي كتب تعيد مراجعة الواقع بفكر جديد يعتمد العقلانية، ويقرأ الأحداث بروح العصر.