مدخل
في قصة قصيرة أسمها quot;حارس المنزلquot; يسرد عبد الله صخي هواجس رجل فقير يسكن في كوخ منعزل يقع في ركن حديقة منزل فخم يبدو كما لو انه مهجور. يتسلل الرجل إلى الكوخ ويسكنه دون إذن من أصحابه مستعيرا دور الحارس؛ quot;في كل يوم يستيقظ الحارس، يتجول في أرجاء المنزل يرقب الحياة القائمة في البراعم وفي مأوى الكلاب الصغيرة أو في تناسل الحشرات تحت الحشائش ويصغي الى أصوات محركات السيارات القادمة من أطراف المدن quot;(1).
ثم يتتبع القاص في بضعة صفحات حياة الحارس الوهمي في سكنه الجديد منصتا للحظات يومه الشبيه بأيام المشردين والفقراء في أي مدينة كبيرة؛ quot;في صباح الجمعة يخرج الحارس يتسوق، يجلب معه ما يحتاجه ويلم بقايا الفضلات من الشارع القريب كأوراق الخس أو اللهانة الذابلة أو ما تبقى داخل المعلبات، أحيانا، يملئ الطشت بالرز المتبقي من حفلات الليالي القريبة الماضية، يجده مهملا على الأرصفة يجمعه ويأتي به الى الكوخ، تتهافت عليه الكلاب، تشبع وتستريح ثم تنام آمنة فيما يبقى الحارس ساهرا يرقب نجمة أو شجرة، أين مالك البيت الآن؟ هل بنى البيت وغادره؟ ربما ينتظر ابنه الذي يدرس في الخارج، وعندما يعود بعد ست سنوات سوف يسكنه، هل أخبرك بهذا؟ أنه يملك بيوتا أخرى ليست مستأجرة وفيها حراس مثلك يشبهونك تماما، مقاول. هل قلت مقاول؟ ألم تفكر بمغادرة المنزل؟ quot;(2)
الحكاية التي قدمها عبد الله صخي في الملتقى الأول للقصة القصيرة في العراق عام 1978 ونشرت، بعد ذلك في كتاب ضم أعمال الملتقى، ربما ترمز لمجيء الريفيين إلى العاصمة وغزوهم لها ابتداء من نهاية الثلاثينيات مرورا بالأربعينات والخمسينيات والستينيات فـquot;صخيquot; نفسه كان أحد أولئك المهاجرين وكان قد استرجع عوالم مدن الصرائف بعد أكثر من ربع قرن من كتابة quot;حارس المنزلquot; عبر رواية بعنوان quot;خلف السدةquot; وفيها يسرد ملامح من هجرة الجنوبيين لبغداد وسكنهم في تجمعات وخانات مكونة من آلاف الصرائف، ومن ثم انتقالهم لمدينة quot;الثورةquot; حين أقطع الزعيم عبد الكريم قاسم لأولئك المهاجرين أراض ليشيدوا عليها بيوتا لهم. كان الرجل، شأنه شأن آلاف الشبان من أقرانه، شاهدا على تلك التجربة، تجربة الهجرة إلى المدينة واقتحام عوالمها.
المهم أن نهاية الحارس كانت تعيسة في القصة، فبعد أشهر يعتل الرجل ويموت ويتهاوى عليه السقف وسط نباح الكلاب الحزينة التي قاسمته طعامه وشرابه وهواجسه أيضا.
هل كانت تلك النهاية ترميزا آخر عن نهاية النازحين لبغداد؟ هل كان الكوخ الذي أستولى عليه الحارس ملعونا ليهوي في الأخير على رأسه؟ سؤالان يمكن لجدلية الكوخ والبيت وصراعهما في بغداد أن يجيبا عليه.

بيت لا تدخله الشمس

من صور الجادرجي للعمة فاطمة مع حارث ناجي شوكت
لا يعطي عبد الله صخي أيّ تفاصيل عن البيت الكبير الذي تدور فيه أحداث قصته لكنّ من الواضح أن الأحداث تجري في الستينيات أو السبعينيات وأن البيت كبير لدرجة أنه يحوي كوخا لحارس كما في بيوت بغداد الفخمة التي تسكنها الطبقة الارستقراطية المتمدنة، تلك الطبقة التي عرفتها بغداد منذ ما بعد منتصف القرن التاسع عشر ومرت بالكثير من المتغيرات الثقافية وصولا إلى الزمن الذي كتبت فيه القصة.
حقيقة الأمر أن تلك البيوت كانت فخمة جدا حسب ما يصف المعماريون وكتّاب المذكرات وقد عرفت بغداد منها نوعين يتوقف عندهما عباس بغدادي في كتابه quot;بغداد في العشرينياتquot;؛ الأول هو ما دأب أهالي بغداد على تسميته بالـquot;قصرquot; وشرطه أن يكون مطلّا على النهر كما هو الأمر في قصر كاظم باشا وقصر النقيب وقصر عبد القادر دله وقصر حجي ياسين الخضيري وغيرها.
أما النوع الثاني من القصور فهو الموجود داخل المدينة وهذا النوع لا يسمّى بلغة البغداديين قصرا إنما دأبوا على تسميته بـquot;بيت درياهيquot;، أي البيت الكبير ذو المرفقات المتعددة. (3)
منزل عارف آغا الذي يدرسه رفعت الجادرجي ينتمي لهذا النوع الأخير فهو لا يطلّ على النهر بل يقع داخل المدينة كما يصف الجادرجي في كتابه.
وبما أن عارف آغا سيرافقنا في هذه السياحة حتى نهايتها نجد من الضروري إلقاء نظرة سريعة على منحدره وعائلته كما يفصلها حفيده رفعت في quot;مقام الجلوس في بيت عارف آغا quot;.
جاء محمود عارف أغا إلى بغداد منتصف القرن التاسع عشر تقريبا بطريقة لا يعلمها أحد لكن الجادرجي يرجّح أن يكون ذلك مرتبطا بعلاقته مع عمر باشا والي بغدادquot; أما بسبب كونه صديقه أو من أتباعه أو أقاربه quot;(4). وبعد منتصف القرن عرف عارف آغا على نطاق واسع في المدينة بعد أن تزوّج فتاة عراقية من عائلة رفيعة وبات له موقع اجتماعي مرموق بسبب ثرائه فقد كان صاحب أملاك واسعة زراعية وعقارية وكان يسكن في منزل فخم كما اشرنا فضلا عن امتلاكه منزلا آخر لا يقل فخامة في الكاظمية.
وبمرور السنوات أصبح لعائلة الآغا وجود اجتماعي قوي ببغداد بعد اندماج أبنائه وبناته في المجتمع وتزاوجهم مع البغداديين ومنهم كامل الجادرجي الذي تزوج إحدى بنات عارف آغا.(5)
كانت دار عارف آغا quot;تقع على شارع الرشيد وتمتد بحيث تملأ المسافة بين زقاقين يصبان في ذلك الشارع quot; وتتكون من كتلتتين جنوبية وشمالية، وتتضمن خمسة أحواش متلاصقة. وقد حجب البيت عن الأنظار في الشوارع المحيطة به بحيز واسع شيّد ليكون مقهى، وأطلق عليه quot;مقهى عارف آغاquot;. (6)
ويذكر الجادجي أن المقهى المذكور ظل معروفا لدى البغداديين حتى الأربعينيات لقربه من مبنى السراي الحكومي ولاتخاذه ملاذا لأبناء الطبقة الراقية والأفندية والموظفين.
ما يهمنا في هذا المفصل أنه توجد في بيت محمود عارف أفندي آغا المذكور غرفة مخصصة لحارس غامض الملامح لا يثير فضول الجادرجي كثيرا. وهذه الغرفة كما يقولquot; لا تدخلها الشمس مطلقا quot; وتقع في بداية المجاز المؤدي إلى الديوه خانة.
يقول الجادرجي :quot;عند الدخول نشاهد ممرا طويلا مظلما وهو مجاز الديوه خانة وتقع على جانبيه دكتان تمتدان على طول الممر لا يزيد ارتفاعهما على ستين أو سبعين سنتمترا أو بعمق متر أو أقل وفي الجهة اليسرى أو الغربية خصصت الدكّة لجلوس زوّار الحارس والفلاحين والحمالين ورجال السقاية والرجال الذين يرافقون الدواب وكان جلوس هؤلاء يتمّ على الدكّة العارية مباشرة، أما الجهة المقابلة، أي الدكّة الأخرى، فقد وضع عليها مندر (وسادة) أو مندران لجلوس الحارس وأصدقائه والزوار من ذوي المكانة المتقدمة بالنسبة له quot; (7).
أما باب غرفة الحارس في بيت الآغا فيوجد quot; في وسط هذه الدكّة..ويؤدي الى غرفة الحارس وهي غرفة مظلمة ومن الصعب مشاهدة شيء من محتوياتها، ولا يمكن لاشعة الشمس ان تدخلها quot; (8).
الحال أنه ليس في بيت عارف آغا حسب بل في جميع قصور الملّاك والأغنياء والتجار، مثّل الحارس عموما جزءا من مرفقات أي قصر كبير، شأنه شأن الطباخ والخادم والعبد وكلب الحراسة. أما وظيفته فلا تقتصر على حراسة الدار والتدقيق في هويات الزوار وإلقاء التحية على أفراد العائلة أثناء دخولهم وخروجهم بل تتعدى ذلك إلى التسوق.
يقول الجادرجي عن حارس بيت عارف آغا : quot; أما وظيفة الحارس الثانية فهي أعقد بكثير وهي قيامه بتسوق الطعام اليومي فيتم عادة مناداته من قبل فطمبوـ أحدى نساء الحرم ـ إلى بداية مجاز الحرم ويأخذ التعليمات إمّا منها مباشرة أو من فاطمة خان من وراء ستار مجاز الحرم فيتقدم نحو مجاز الديوه خانة بطريقه الى الخارج ولكن قبل أن يصل إلى منتصف مجاز الديوه خانه يناديه وصفي ويسأله عن طلبات اليوم التي كان قد تبلغ بها من قبل نساء الحرم فيؤكد عليه العم على النوعية والكمية والاسعار وعلى المساومة المشددة مع الباعة quot;(9)
أن فكرة وجود غرف أو أكواخ أو أجنحة خارجية مخصصة للحرس والخدم والعبيد كانت متحققة دائما وهي تعكس، دون شك، الوظيفة الاجتماعية المعقدة لمنازل الطبقات الراقية والحكام في كل مكان وزمان، في المدن والأرياف، وفي الشرق والغرب على حد سواء.
تقول جنيفير سكيرس وهي تستكشف المحيط الداخلي للمنزل الشرقي خلال نهايات العصور الوسطى حتى بدايات العصر الحديث: quot;وكانت المساكن المخصصة للحاكم ملتحمة مع الانظمة الدفاعية بما في ذلك مساكن عائلته وبطانته بالاضافة الى مكاتب ادارة شؤون الدولة وهذه كلها مجتمعة يمكن تشبيهها بمدينة صغيرةquot;. (10)
الحال أن البيت العراقي لا يختلف كثير اختلاف عن بيوت أيران وتركيا ومصر فهو الآخر يتبع المنطق ذاته، منطق العزل بين مساكن العائلة ومساكن البطانة والخدم، ويختصر أوسكار رويتر في هذا المنطق في كتابه عن quot;البيت العراقيquot; بالقول : quot;تقع الغرف الجانبية والمنتفعات، غرف الخدم، غرف المؤونة، المطبخ، الحمام، غالبا في الطابق الارضي إذا لم يكن البيت يشكل حوشا دائريا متكاملا. أما غرف نوم الخدم فتوضع قدر الإمكان قرب مكان عمل كل منهم :غرفة نوم الطباخ قرب المطبخ، وغرفة نوم البواب قرب المدخل، وغرفة نوم السايس قرب الاسطبل وهذه الغرف تكون غالبا صغيرة وبلا نوافذ quot;.(11)
الأمر مع بيت الآغا لم يكن استثناء إذن؛ فغالبا ما تكون غرف الخدم صغيرة وبلا نوافذ، ولذا يصف الجادرجي غرفة الحارس في بيت الآغا بأنها quot;مظلمة ومن الصعب مشاهدة شيء من محتوياتهاquot;.
أنها، بالاحرى، غير مرئية، هامشية وغارقة في الظلام، تماما مثل ساكنها غير المنتبه لملامحه بوصفه ذاتا في أغلب المدونات الوصفية التي تدور حول حياة الطبقات الارستقراطية. أنه مجرد حارس، بوّاب، خادم، أو لنقل باختصار؛ شخص لا يعرف عنه أحد شيئا، شخص يطرح غالبا في مدونات شبيهة بـquot;مقام جلوس بيت عارف آغاquot; بوصفه جزءا من نظام البيت لا بوصفه ذاتا لها ملامح وقسمات.
ولئن مارس المدونون، دون وعي، تعمية ملامح الحارس أو الخادم أو البواب، إلا أن اللغة تتغلب عليهم دائما وتنجح في تسريب موقفهم الثقافي من التراتبية التي ينطلقون منها، تراتبية السيد ـ العبد، المالكا ـ الخادم، الأعلى ـ الأدنى. والنتيجة أن المدونين الأرستقراطيين يكشفون، في مدوناتهم، ملامح آخرى، ليس للحارس، بل لنظرتهم له كما سنرى.
**********

الهوامش
1ـ ينظر quot;أعمال الملتقى الأول للقصة القصيرة في العراقquot;. صدر عن وزارة الثقافة والاعلام ـ دار الرشيد للنشر عام 1978 ـ ص 45
2 ـ المصدر نفسه 43
3 ـ ينظر quot;بغداد في العشرينيات quot; للمؤلف عباس بغدادي ـ دار الشؤون الثقافية ـ بغداد عام 2000 ـ الطبعة الأولى ـ ص 162
4 ـ ينظر quot; مقام الجلوس في بيت عارف آغاquot; لرفعت الجادرجي ـ دار الساقي ـ الطبعة الأولى عام 2001 ص
5 ـ المصدر نفسه ص 33
6 ـ المصدر نفسه ص 33
7 ـ المصدر نفسه ص32
8 ـ المصدر نفسه ص33
9 ـ المصدر نفسه ص 34
10 ـ ينظر quot;الثقافة الحضرية في مدن الشرقquot; ـ جنيفر سكيرس ترجمة ليليى الموسوي ـ سلسلة عالم المعرفة ص51
11 ـ ينظر quot;البيت العراقيquot; أوسكار رويتر ـ ترجمة محمود كبيبو ـ دار الوراق لندن الطبعة الأولى 2005 ـ ص 36