كانت الكويت في ستينات وسبعينات القرن الماضي مثالا عربيا رائدا في مجالات الحريات الصحفية والممارسات الديمقراطية، ولم تكن حكومة عربية تخاف من برلمان بلادها كما هي الحكومات الكويتية، حيث تميزت انتخابات مجلس الأمة الكويتي بالشفافية، وممارساته بالتالي بجرأة من النادر وجودها في أي برلمان عربي، وكذلك حرية الصحافة التي كانت فعلا بلا حدود لا تستثني أحدا داخل الكويت أو خارجها. وفي مجال ريادة المرأة وتبوأها مراكز قيادية ما زالت نساء العديد من الدول المجاورة لم تصل إلى نسبة قليلة منها. ومن يستطيع نسيان مسيرة المسرح الكويتي التي جعلته خاصة - مسرح الخليج العربي ndash; في مستوى مسارح عريقة كالمسرح المصري. وأكتب هذه المعلومات نتيجة معايشة ميدانية للحياة الكويتية لمدة قاربت العشر سنوات، حيث لم نكن نسمع بدور لأجهزة الأمن والمخابرات، و كانت البلاد تعيش في سلام اجتماعي يشمل الجميع مواطنين ووافدين، رغم الشكوى العلنية الدائمة في الكويت وكافة بلدان الخليج العربي، وهي التمييز العنصري الفاحش بين رواتب الموظفين المواطنين، ومن هم أعلى منهم خبرة وشهادات من الوافدين العرب، بينما الوافد الأمريكي أو البريطاني فراتبه أعلى من راتب المواطن والوافد، وكان ذلك وما يزال إلى اليوم.

مشكلة البدون القديمة الجديدة
هذه الحالة ndash; المشكلة هي التي استدعت عندي تلك الذكريات الجميلة الرائدة عن الكويت، وهي مشكلة ليست خاصة بالكويت بل في غالبية دول الخليج العربي، الإمارات العربية، المملكة العربية السعودية،وقطر، وإن كانت أعلى نسبة منهم هي في الكويت ، وحسب تقرير واحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2009 ، فإن عدد البدون يبلغ نحو 93 ألف شخص من بين عدد المواطنين الكويتيين البالغ 33 % من إجمالي السكان، وفي الإمارات يبلغ تعداد البدون حوالي عشرين ألف من تعداد الإماراتيين البالغ حوالي 20 % من إجمالي السكان، وفي السعودية تبلغ نسبة السعوديين 73 % من إجمالي السكان، بينما البدون لا يتجاوز عددهم 70 ألف شخص، وفي قطر يبلغ عدد القطريين 23 % من مجمع السكان، بينما البدون حوالي 1300 شخصا. وهذا البدون يعني انّه مقيم في البلاد منذ عشرات السنين، وغالبيتهم ولد أجدادهم وأباؤهم في البلاد ورغم ذلك لا يحملون جنسية البلد الذي يقيمون فيه، وفي بعض الأقطار المذكورة لا يحصل الطفل المولود على شهادة ميلاد، ولا المتزوج على شهادة زواج، وحالات عديدة معقدة تختلف من بلد خليجي إلى آخر، حيث تتراوح هذه الاختلافات من عدم إمكانية العمل والوظيفة إلى عدم الحق في العلاج والتعليم المجاني كما هو متاح للمواطنين حاملي الجنسية.

انفجار المشكلة مع بداية الربيع العربي
وطرح هذه المشكلة الآن لا يقصد منه الإساءة لأية دولة خليجية بقدر ما هو طرح مشكلة إنسانية عالقة منذ ما يزيد على نصف قرن، وهي ليست مشكلة سرّية فالعديد من هذه الدول الخليجية تعترف بها وتحاول طرح حلول لها، رغم أنّها خطوات بطيئة للغاية لا تلبي الأغراض الإنسانية العالقة لهؤلاء البدون. والدليل على عدم سرّية هذه القضية، أنّ فضائية الجزيرة سبق أن طرحتها في برنامج علني هو برنامج (في العمق) من تقديم على الظفيري في التاسع عشر من تموز لعام 2010 ، شارك فيه الدكتور غانم النجار، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، والدكتور إبراهيم الشمسي، أستاذ الإعلام في جامعة الإمارات.
وقد برزت هذه المشكلة العالقة مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وكانت أول تظاهرة سلمية للبدون في الكويت في شهر فبرايرالماضي، رافعين شعارات منها (محرومون من الوظائف) وجرت اشتباكات بين المتظاهرين ورجال الشرطة، أصيب فيها حوالي ثلاثون شخصا من بينهم سبعة من رجال الأمن الذين استخدموا قنابل الغاز والمياه لتفريق المتظاهرين الذي رفضوا فض المظاهرات حسب بيان وزارة الداخلية آنذاك. وكان المتظاهرون من البدون يطالبون أمام الصحافة ووكالات الأنباء بمجانية التعليم والرعاية الصحية والوظائف كغيرهم من حملة الجنسية الكويتية، بينما تطلق عليهم أجهزة الدولة تسمية ( مقيمون بصورة غيرقانونية). وقد تجددت المظاهرات والاشتباكات في الكويت أيضا يوم الجمعة السادس عشر من ديسمبر الحالي،حيث تجمع المئات من البدون بعد صلاة الجمعة في منطقة الجهراء، رافعين الأعلام الكويتية مطالبين بالجنسية، فتصدت لهم قوات الأمن والشرطة بالغاز المسل للدموع وخراطيم المياه، وقامت الشرطة باعتقال حوالي عشرين شخصا من المتظاهرين، بينما قال شهود عيان أن الشرطة طاردت العديد منهم حتى أبواب منازلهم وعلى مرأى من عائلاتهم وأطفالهم.

وقد تجددت التظاهرات يوم الإثنين الموافق التاسع عشر من ديسمبر في منطقة تيماء بمدينة الجهراء إلى الشمال الغربي من مدينة الكويت، تلبية لدعوة quot;اثنين الكرامةquot; وذلك للمطالبة بما أسموها حقوقهم في التجنيس ومنحهم الحقوق الإنسانية، وهتف المتظاهرون quot;سلمية، سلمية، حرية، حريةquot;، حيث وصلت قوات أمنية كبيرة قرب مسجد تيماء، تدعمها طائرات تحوم فوق المنطقة، وقد تمّ اعتقال عدد من المتظاهرين بعد مطاردتهم من قبل رجال الأمن والقوات الخاصة داخل الأحياء السكنية، وتم الإعلان عن اعتقال صحفي كان ينقل أخبار التظاهرة. وقد كان لافتا أنّ من بين حضروا للتضامن مع هؤلاء البدون نشطاء كويتيون بارزون منهم عضو مجلس الأمة السابق محمد الخليفة، والمحاضرة الجامعية ابتهال الخطيب. وقدّر عدد المتظاهرين من البدون بما يزيد على ألف شخص.
إنّ تواصل مظاهراتهم وتزايد عدد النشطاء البارزين والمؤسسات الكويتية المتضامنة معهم، تعطي المؤشرات بأنّ ربيع البدون الكويتي لن يهدأ إلا بتحقيق مطالبهم الإنسانية العادلة، وليس مستبعدا أن يمتد هذا الربيع لخريف البدون في أقطار خليجية أخرى، لإنهاء هذه المعاناة التي لا تليق بأية ممارسات ديمقراطية أو أخلاق إنسانية، نتشدق بأنها من صفات العربي، اكتسبها من إسلامه فإذا أغلب ممارساتنا تقترب من العبودية التي رفض عنترة بن شداد العبسي بسببها التصدي لغزاة عشيرته، فلما أقرّ سيده بحريته، استلّ سيفه فدحر الغزاة. فهل يعي حكامنا أنّ الأوطان لا يدافع عنها سوى أحرارها الذين يعيشون على ترابها متمتعين بحريتهم وكرامتهم!!!.


ردود الفعل الكويتية مثال على ديمقراطية فريدة
وما يدهش المتابع للشأن الكويتي هو أنّ ردود فعل الفعاليات الشعبية والسياسية الكويتية ضد ردود فعل الشرطة والأمن الكويتي ضد المتظاهرين، كان حضاريا ديمقراطيا متضامنا مع هؤلاء البدون، مع أن البعض من الممكن أن يتوقع أن يكون ردهم ككويتيين يتمتعون بالجنسية والامتيازات الخاصة، هو مع قوات الشرطة والأمن في كافة ما فعلته ضد المتظاهرين من البدون، المطالبين بحقوق كفلتها كافة الشرائع السماوية والأرضية. وصف الاتحاد الوطني لطلبة الكويت رد فعل الشرطة بأنّه (وصمة عار في مسيرة الكويت نحو الحريات وأنّه جريمة انسانية لا ينبغي أن تستمر في بلادنا). أما التيار التقدمي اليساري فقد رأى (أنّ التعامل الأمني من شأنه أن يعقد القضية ويزيدها تفاقما، ونطالب بوقف التعسف في استخدام القوة والإفراج الفوري عن المعتقلين). كما أدان العديد من نواب البرلمان الذي تمّ حله قمع الشرطة للمتظاهرين من البدون، لأنّ القمع لن يحلّ المشكلة المستمرة منذ عشرات السنين. والغريب ذو الطابع غير الإنساني أنّ القانون الكويتي لا يسمح بالتظاهر والتجمع إلا لحملة الجنسية الكويتية، لذلك فأسهل تهمة توجه للمتظاهرين من البدون هي التجمهر والتظاهر بطريقة غير مشروعة. وهل مصادرة حقوقهم الإنسانية منذ عشرات السنين طريقة مشروعة؟. هل حرمانهم من الرعاية الصحية والتعليم وشغل الوظائف مسألة مشروعة؟.

وجهة نظر الحكومة الكويتية
تطرح الحكومة الكويتية وجهة نظر بخصوص هؤلاء البدون مفادها أنّهم يقيمون بشكل غير شرعي في البلاد، وأنّ بعضهم يحمل جنسيات دول أخرى، وانّها تدرس المسألة بعناية على أن تمنح الجنسية لمن تراه يستحقها منهم. وتؤكد بعض المصادر الحكومية أنّه في السنوات الماضية تمت تسوية حالات ألاف منهم، إلا انّ هذه التطمينات لا يؤكدها غالبية هؤلاء البدون، لأنّه في الكويت وبقية البلدان الخليجية المذكورة سابقا، من غير المنطقي أنّ مشكلة عدة ألاف من المواطنين تحتاج لما يزيد على نصف قرن لحلها، خاصة أنّ العشرات من هؤلاء المتظاهرين يواجهون المحاكمة التي يؤكد المحامي الكويتي مبارك الشمري أنّها محاكمات ذات طابع سياسي، وانّ المتهمين يواجهون أحكاما بالسجن ما بين ثلاث وخمس سنوات. فهل يعقل إنسانيا وأخلاقيا السجن خمس سنوات لمجرد مطالبة هذا المواطن بأبسط الحقوق الإنسانية مثل الرعاية الصحية والتعليم والوظيفة التي يعيل عائلته من دخلها؟.

وهناك بدون في دول غير خليجية أيضا،
ففي مصر يوجد ألاف من أطفال المصريات اللواتي تزوجنّ فلسطينيين، لم تمنح الحكومات المصرية المتعاقبة الجنسية المصرية لأطفالهن، بينما المصرية المتزوجة من أمريكي أو أندونيسي أو باكستاني أو أية جنسية أخرى، فقد حصل المئات من أطفالهن على الجنسية المصرية. المهم أن لا يكون الزوج من تلك اللعنه والشؤم التي اسمها (فلسطيني). وفي الأردن حالة مشابهة مع مفارقة ملحوظة، فإذا تزوج الأردني من فلسطينية فتعطى الجنسية لأطفاله، ولكن إذا تزوجت الأردنية من فلسطيني فلا يعطى أطفالها الجنسية الأردنية. وهذا دليل على أنّ مجتمعتنا ذكورية تعطي الرجل حقوقا لا تعترف بها للمرأة، وهذا يذكرك أيضا بالعرف العربي الإسلامي الشائع وهو السماح للرجل المسلم أن يتزوج مسيحية، بينما لا يسمح للمرأة المسلمة أن تتزوج مسيحيا!!!.

ما هو الحل في كافة الدول الخليجية؟
الحل هو الإسراع في دراسة حالات كافة هذه الألاف من البدون لإثبات من يحمل جنسية دولة أخرى، وهذا يعني أنه مواطن لدولة أخرى لا حق له في جنسية الدولة الخليجية التي يعيش فيها، أيا كان عدد السنوات طالما قانون تلك الدول لا يعطي الجنسية بأقدمية الإقامة كأغلب الدول الأوربية والأمريكية. أما من لا يحمل جنسية أية دولة أخرى فمن حقه الحصول على جنسية الدولة التي يعيش فيها هو وأباؤه منذ عشرات السنين. وهذه الحالة التقييمية يجب أن لا تستغرق أكثر من شهور إذا كنا نريد أن نكون عادلين وغير عنصريين، فيكفي المماطلة ومصادرة أبسط حقوق هؤلاء البدون منذ ما يزيد على نصف قرن.

ولفسحة من ضحك كالبكا، أطرح الأسئلة التالية:
_ لماذا نحن العرب والمسلمون نخاف من بعض، ولو أقام العربي والمسلم في قطر آخر نصف قرن لا يحصل على جنسية ذلك البلد؟

_ لماذا يقيم العربي أو المسلم في أية دولة أوربية أو امريكا العظمى المدة القانونية رسميا وهي في الغالب لا تزيد عن سبع سنوات، فيصله قرار الجنسية بالبريد بدون أية مراجعات أو محامين؟.

_ لماذا منحت دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 حوالي مائتي ألف فلسطيني الجنسية الإسرائيلية، فإذا بهم اليوم مليونا وربع أي حوالي ربع سكان دولة الاحتلال؟. ماذا كان سيحدث لهم لوحرمتهم دولة الاحتلال من الجنسية، أما كان سيهاجر ويغادر أغلبهم؟

_ ماذا كان سيكون مصير باراك حسين أوباما لو هاجر والده قبل خمسين عاما لدولة عربية أو إسلامية؟. هل كان سيحصل على أكثر من وثيقة تشبه وثيقة اللاجئين الفلسطينيين الصادرة من عدة دول عربية، وكنّا وما يزال من يحملها يعامل في غالبية المطارات العربية معاملة لا يقبلها الأوربي والأمريكي لكلبه؟. ولكن لأن حسن حظ والد باراك أوباما أنّه هاجر للولايات المتحدة الأمريكية، فهاهو ابنه الأسود رئيسا للبيت ألأبيض الأمريكي؟.

ملاحظة
الإدانة الواضحة الشديدة أيضا تشمل كل ما تعرض له المتظاهرون في مصر والبحرين وكافة الأقطار العربية، لأن ما جرى خاصة في مصر أمر مخجل لا يليق بالعصور الوسطى وليس القرن الحادي والعشرين، فهي مظاهرات تطالب بالحرية والديمقراطية، وفي البحرين بإصلاحات سياسية جذرية تبدأ من إصلاح الدستور وتحقيق التداول السلمي للسلطة. وأعتقد أنّ المستفيد الوحيد حتى الآن من ثورات الربيع العربي هي الشركات الأجنبية المنتجة للغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، فقد بدأت هذه الشركات زيادة انتاجها نتيجة الطلب المتزايد من قوات الشرطة والأمن العربية.
[email protected]