خيول جامحة هاربة من أصطبلاتها لأنها جاعت و(قرفت) وتريد (شم الهوا)
من يتمعن في الكتل البشرية الغاضبة التي تموج بها هذه الأيام شوارع المدن العربية يرصد ما يلي: أولا، الأكثرية الساحقة بينهم من الشباب، و هناك تواجد ملحوظ، وأحيانا طاغ للنساء. ثانيا، اندفاعهم عفوي، وبدون تشجيع، أو تحضير أو وصاية، أو أشراف لأي (مؤسسة)، مهما كانت، لا من الأحزاب التقليدية اليسارية واليمينية التي عرفها العالم العربي، ولا من قبل حركات الإسلام السياسي بشقيها، المتطرفة، والتي تسمى معتدلة، ولا بتحريض من الدعاة الوعاظ الذين يلقون دروسهم على الناس من شاشات القنوات الإسلامية الفضائية. الأحزاب التقليدية، يراها هولاء الشبان الغاضبون جزءا من النظام القائم الذي يريدون تهديمه. هذه الأحزاب، أو ما تبقى منها، كحركة الأخوان المسلمين في مصر، مثلا، تلهث الآن وراء الأحداث، ولم تساهم في خلقها، وتنظيم القاعدة والجماعات الإسلامية القريبة منه لا وجود لها في التظاهرات، وذاب صوتها، الذي كان مدويا قبل أيام، كما تذوب ملعقة ملح داخل محيط هائج. ثالثا، ما من دور، مباشر أو غير مباشر، للمؤسسات الدينية التقليدية ولا وجود لأي فتوى دينية انطلقت بفضلها التظاهرات، فالمتظاهرون في مصر، مثلا، لم يستشيروا مؤسسة الأزهر، ولم يأخذوا رأي هذا الشيخ الديني أو ذاك، والدعاة الدينيون (من النجوم) الذين كان يقال أن خطبهم تباع بالملايين بارت تجارتهم ولاذوا بالصمت، وهذه التظاهرات لم تنطلق من المساجد، ولا من المؤسسات الجامعية، ولا من مقرات اتحادات الأدباء والفنانين، ولا من المساكن العائلية، إنما من ميادين عامة. رابعا، لم يرفع المتظاهرون في جميع المدن العربية شعارات ومطالب دينية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية أو جهوية، إنما شعارا توحيديا واحدا هو الإجهاز على الأنظمة القائمة، أي أنهم لا يريدون العبث بأمن بلدانهم، ولا يريدون تخريبها أو ترويع مواطنيهم، ولا يريدون إشعال أي فتنة. خامسا، ينتمي المتظاهرون الغاضبون، في غالبيتهم الساحقة، للطبقات الوسطى المتعلمة، وليس للطبقات الفقيرة المعدمة، والبعض من هولاء، كما في السودان، رفعوا شعار (قرفنا)، أي ضقنا ذرعا بكل شيء، ونظرائهم في مصر رفعوا شعار (نريد أن نشم هوا)، وزملائهم في تونس قالوا إنهم لا يريدون الخبز وحده، إنما الحرية، بل الحرية قبل الخبز. سادسا، عمليات تدمير مراكز الشرطة ومقرات الأحزاب الحاكمة ودوائر المخابرات وممتلكات المسؤولين والمصارف الخاصة التي حدثت، ليست من صنع لصوص أو (بلطجية) تسللوا في غفلة من المتظاهرين، وإنما هي من صنع هولاء الغاضبين أنفسهم، إنهم يفعلون ذلك ليؤكدوا بأنهم (خارجون) عن (القانون) المعمول به والذي بفضله كممت الأفواه وصودرت الحريات العامة والخاصة ووزعت الثروات الوطنية بشكل ظالم. والملاحظة الأخيرة هي، أن مرجعيتهم هي الانترنيت وأولادها، فيس بوك وتوتير. وهذه مرجعية كونية، لا جنسية لها، ولا لغة وطنية، ولا نسب قومي، ولا ديانة. وهي مرجعية معاصرة تتجاوز (المرجعية) (البيولوجية) القائمة، الهرمة، جسدا وروحا وعقلا.
عملية مخاض كبرى
الحرائق التي يشعلها هولاء الشبان الغاضبون في العالم العربي هي عملية مخاض حقيقية كبرى غير مسبوقة بالمرة، كل ما فيها يؤشر لميلاد حقبة تاريخية جديدة بالكامل، على جميع أصعدة الحياة، تتقاطع جذريا مع كل ما سبقها من حقب. المتظاهرون في شوارع العواصم العربية لا يطالبون، هذه المرة، بتحقيق إصلاحات ترقيعية، إنما إحداث تغيير جذري. وهم لا يطالبون بتغيير الأنظمة السياسية فحسب، ولا بإجراء رتوش اقتصادية، ولا توفير فرص عمل فقط، ولا يكتفون بتبديل الحكام وحدهم. المتظاهرون الغاضبون يريدون، حتى وأن لم يعلنوا ذلك صراحة، إحداث قطيعة تطال جميع (المؤسسات) والأطر والأنساق القديمة القائمة، السياسية/ الاجتماعية/ الأخلاقية/الاقتصادية. إنهم ليسوا (الضباط الأحرار) الذين بدأو منذ خمسينيات القرن الماضي يصلون إلى سدة الحكم قادمين من الثكنات العسكرية، وقدموا أنفسهم كأصحاب حلول جذرية quot;تقدميةquot;. هذه الحقبة التاريخية التي حكم خلالها هولاء الضباط هي حقبة طويلة جدا بدأت منذ نهاية الأربعينيات وما تزال قائمة حتى الآن، لكنها كشفت أن هولاء الضباط ليسوا (أحرار) وليسوا (ثوار)، وليسوا تقدميين، وليسوا شجعان، إنما ترقيعيين وأصحاب أنصاف حلول، ورعاديد، ولم يحققوا لمواطنيهم، لا الحرية ولا الخبز، ولا حتى الكرامة القومية. شعاراتهم الذي رفعوها وتذرعوا بها لتبرير استبدادهم كانت (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) و(كل شيء من أجل المعركة)، لكن النتائج كانت مزيدا من الخسائر، ومزيدا من الخيبات والأحباطات والهزائم والإذلال للمواطنين، يقابل ذلك إصرار عنيد من الحكام على البقاء في الحكم، بدون أي شرعية دستورية وبدون أي غطاء أو تخويل جماهيري،أنهم يصرون على البقاء في الحكم حتى وقد أصبحوا في عداد الديناصورات. هذه الحقبة من الفشل أنتجت قوى مضادة (جديدة) هي الحركات الإسلامية المتطرفة تبلورت خلال السنوات الأخيرة بتنظيم القاعدة. الشعارات (الجديدة) التي رفعتها هذه القوى هي (الإسلام هو الحل) و (لا صوت يعلو فوق صوت السلف)، أو لا صوت يعلو فوق صوت الخلافة الإسلامية، أو، عموما، لا صوت يعلو فوق صوت الإسلام السياسي. لكن هذه الحركات الإسلامية بدت، في عيون الشبيبة العربية، ومن حلال أفعالها هي، أكثر بطشا ودموية و أكثر استبدادا وأكثر طغيانا، وأكثر تخلفا وأكثر احتكارا للحقيقة وأكثر ديكتاتورية، من الأنظمة الديكتاتورية المدنية التي تدعي هذه الحركات أنها تدينها، لأن هذه الحركات لا تملك سوى سياسة إشهار السيف بوجه من يعارضها، وفوق ذلك، فأن هذه الحركات ألحقت إساءة بالغة بتعاليم الإسلام السمحة. وتجارب حكم حركة طالبان في أفغانستان، ونظام ولاية الفقيه في إيران، وما حدث في العراق بعد إسقاط النظام البعثي ما تزالان ماثلتين في أذهان هولاء الشبان الغاضبين. لقد تيقن هولاء الشباب أن المعركة الدائرة بين هذه الحركات الإسلامية وبين الأنظمة الديكتاتورية العلمانية لا تدور حول أيهما يضمن الحريات ويبني النظام الديمقراطي، إنما هي معركة حول من يحق له الحكم، فيبطش بالناس أكثر.نحن أمام وضع كالتالي: مطرقة حركات الإسلام السياسي، وسندان الأنظمة الديكتاتورية المدنية، أو العلمانية، إذا شئتم. الشبان الغاضبون الذين يشعلون الحرائق هذه الأيام في المدن العربية يرفضون المطرقة والسندان، معا. بالطبع، هولاء الشبان المتظاهرون ليسوا مقطوعي الجذور، ولم يهبطوا على الأرض العربية بالبراشوت. إنهم أبناء وأحفاد من سبقوهم، لكنهم أولاد (عاقين) رافضين لأي أبوة، بل يريدون (قتل الأب). هولاء الشبان الغاضبون هم (مواطنون أحرار)، غايتهم وهدفهم الاستراتيجي هو، الحرية الحقيقية الشاملة، والعدالة الضامنة للحد الأدنى من العيش الكريم، والديمقراطية الحقيقية الضامنة لممارسة جميع الخيارات، وليس خيارا واحدا، ولجميع الناس، وليس لفئة دون أخرى، بدون أي وصاية فوقية، وبدون أي دروس تتلى عليهم. باختصار، أنهم يريدون إشعال الحريق، ويريدون التدمير، تدمير هذا العالم الذي ورثوه من الآباء والأجداد لأنه، ببساطة، ليس عالمهم، ولم يساهموا في خلقه، وهو لم يعد صالحا للاستعمال، الآن، والبشرية تدخل في العقد الثاني من الألفية الثالثة. لكن السؤال الأكبر هو، لماذا الآن ؟ لماذا لم تشتعل هذه الحرائق بعد هزيمة حزيران عام 1967، مثلا، أو خلال التغيرات العاصفة بعد انهيار جدار برلين؟
إسرائيل و الولايات المتحدة والغرب هم السبب
الحكام الذين يمسكون بدفة الأمور في العالم العربي ينام أحدهم وبجانب سرير نومه منضدة عليها علبة صبغ أسود لشعر الرأس، وعلبة مسكنات، وثالثة لمعالجة الخرف. لكن هذه المستحضرات الطبية لا تعيد الشباب، ولا تخلق الحيوية لأجساد هرمة. هذه الشيخوخة البيولوجية رديفة لشيخوخة الأنظمة التي يقودها هولاء الهرمون، ولشيخوخة المؤسسات والقيم السائدة في المجتمعات العربية التي تمد هولاء الحكام بالقوة. النظام العربي الرسمي القائم هو من مخلفات الحرب الباردة. فالعالم العربي تقاسمته، طوال القرن الماضي، الولايات المتحدة، من جهة، والاتحاد السوفيتي، من جهة أخرى. الأولى دعمت أنظمة سياسية وكذلك حركات سياسية في غاية التخلف لأنها تعادي الشيوعية، والسوفيت دعموا أنظمة سياسية أخرى أنشأها ضباط مغامرون حكموا شعوبهم بالقهر، لأن هولاء عقدوا معاهدات صداقة (إستراتيجية) مع موسكو. في العقد الأخير من القرن الماضي سقط الاتحاد السوفيتي، وظهر نظام القطب الواحد الأميركي. لكن أميركا لم تغير سياستها اتجاه العالم العربي قيد شعرة. فرغم أن رياح التغيير، التي بدأت تهب عقب انهيار جدار برلين، وصلت إلى مناطق كثيرة في العالم، بما في ذلك أميركا اللاتينية وأفريقيا إلا أنها لم تصل العالم العربي، أو بالأحرى حيل بينها وبينه. فقد ظلت الولايات المتحدة والحكومات الغربية تؤكد على مسألة (الاستقرار) في العالم العربي، وليس على مسألة (التغيير)، كما هو الأمر في بلدان عديدة. والاستقرار الذي تنشده الولايات المتحدة ومعها الحكومات الغربية هو الاستقرار الذي تراه العين الإسرائيلية. إسرائيل تنظر، ليس للعالم العربي وحده، أو منطقة الشرق الأوسط وحدها، وإنما للعالم من خلال عين مصالحها الإستراتيجية هي. فهي عادت نظام صدام حسين ليس بسبب ديكتاتوريته وقمعه، وإنما لخوفها من قدرته العسكرية، وهي تعادي النظام الإسلامي القائم في إيران ليس بسبب نظام ولاية الفقيه، وإنما خوفا من قنبلته النووية الموعودة، وهي تعادي الحركات الإسلامية المتطرفة ليس لأن هذه الحركات تعادي الديمقراطية، ولكن لسياستها المناهضة لإسرائيل، وهي ساندت أنور السادات وحسني مبارك ليس لأي سبب سوى معاهدة السلام المعقودة معها، وهكذا مع جميع الأنظمة. أما قضايا التنمية الشاملة والحريات والديمقراطية فهذه أمور لا تعنيها. بهذه العين الإسرائيلية نفسها تنظر الولايات المتحدة والحكومات الغربية للعالم العربي. وأي متابعة، حتى ولو سريعة، للمواقف الحكومية وللتغطية الإعلامية الأميركية في أميركا والعواصم الغربية لما يحدث هذه الأيام في العالم العربي تؤكد ما نقول. فالزلزال الذي ضرب تونس لا ترى هذه العواصم من آثاره غير عودة الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية. والبركان الذي يقذف بحممه هذه الأيام في مصر لا ترى هذه العواصم من حممه غير معاهدة السلام المعقودة مع إسرائيل، ومن بين كل هذه الجموع الحاشدة الغاضبة من الشبان في المدن المصرية لا ترى هذه العواصم غير حركة الأخوان المسلمين.الآن، وقد انهار جدار الخوف وحلت عقد الألسن في العالم العربي، بدأت أجندات جديدة تظهر، تكتب موادها الشعوب، لا وفقا لما تريده إسرائيل وأميركا والحكومات الغربية، ولا حتى وفقا لما تريده وتتمناه (المؤسسات) العربية القائمة، وإنما وفقا لما تريده هذه الشعوب نفسها، وخصوصا أجيالها الشابة، وليس أمام الولايات المتحدة والحكومات الغربية إلا احترام ما تطالب به هذه الجموع الغاضبة، وأن تتخلى عن سياسة الكيل بمكيالين، إذ عليها أن تساند ما يحدث في المدن العربية مثلما ساندت ما حدث في دول أوربا الشرقية، وإلا فأن مصالحها الإستراتيجية هي التي ستتعرض للخطر.
التعليقات