* قبل أسبوع، خلال افتتاح معرض بغداد الدولي، خاطب عريف الحفل رئيس الوزراء العراقي، السيد نوري المالكي وكان حاضرا، وقال: نعم يا أبا إسراء، أي ولله،تمر بك الأبطال كلمى هزيمة / ووجهك وضاح وثغرك باسم. واضح، أن عريف الحفل يقتبس من قصيدة المتنبي التي قالها بحق سيف الدولة، ومنها:

وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

* في صحيفة بغداد (في عددها الصادر في 08/11/2010) وصف كاتب السيد إياد علاوي، رئيس القائمة العراقية، المنافس الرئيس للمالكي على رئاسة الحكومة، بأنه: (أبو حمزة القائد التاريخي ... المقدام... أنزه قائد، أمل النزيهين ... القائد الأمل الذي يبايعه شعبه بكل شرائحه ومفاصله وتشكيلاته وانتماءاته وولاءاته.)

الحقائق قاسية لكن لا بد من سماع ما تنطق به
قد يكون السيد المالكي باسلا، حقا، ومقداما، وفي منتهى الشجاعة، لكننا نعرف جميعا، استنادا على الحقائق والوقائع التي حدثت في العراق منذ عام 2003، لا على أي شيء آخر، أن السيد المالكي (وهو ليس الوحيد، بل معه السيد علاوي وكل زملائهم من أفراد الطبقة السياسية) لم يتسن له ممارسة نشاطه السياسي العلني، وبالتالي لم يصبح رئيسا للوزراء، بفضل حروب خاض غمارها، وصرع في ساحاتها الأبطال الذين يقاتلونه. المالكي عاد للعراق وتسنى له أن يحكم بفضل (بطولة) أجنبية أميركية. وليس السيد المالكي ولا السيد علاوي وليس أي فرد من الطبقة السياسية الحالية، وإنما القوات الأجنبية الأميركية هي التي جعلت (أبطال) العهد السابق، صدام حسين وحسن علي المجيد وطه ياسين رمضان وغيرهم (تمر كلمى هزيمة)، مرة على شاشة التلفزيون، ومرة أمام قضاة المحكمة الجنائية. وعندما كان المذيع يتحدث عن الأبطال المهزومين الذين يمرون تحت شرفة المالكي، كان قادة القوات الأجنبية الأميركية يتواجدون، ليس بعيدا عن مكان الاحتفال.
نعرف، أيضا، أن السيد إياد علاوي، استنادا على نتائج الانتخابات الأخيرة، لا على أي شيء أخر، لم (يبايعه شعبه بكل شرائحه ومفاصله ...الخ) وإنما (بايعه) عدد محدود من الناخبين كرئيس لحركة الوفاق، داخل قائمة أوسع هي (العراقية). قد يكون السيد علاوي في منتهى العفة والنزاهة، وقد يرى فيه (بعض) الناخبين العراقيين أملهم ومنقذهم، لكن لا يمكن اعتباره، استنادا على عدد الأصوات التي حصل عليها، (القائد الأمل، التاريخي)، مثلما لا يمكن القول عن أي منافس له من الفائزين بأنه القائد الأمل التاريخي، لأن كل واحد منهم لم يحصل، بمفرده، على أصوات الغالبية المطلقة من الناخبين.
ربما غالينا في طرحنا للأمور بهذه الطريقة، ومن المرجح جدا أن عريف الحفل وكاتب المقال قالا ما قالاه متطوعين، دون إيعاز من أحد. نعرف ذلك. لكننا قدمناه بهذه الطريقة حتى نواجه به مغالاة أشد مرارة، لكنها أشد خطورة على مستقبل العراق، وهي هذه المحاولات التي ما تزال مستمرة، بعناد، لإعادة أنتاج عبادة الشخصية، أو إعادة أنتاج صورة (البطل) صاحب الصفات الخارقة، مرة أخرى في العراق الجديد، بعد كل هذا الخراب الشامل الذي حدث في العراق طوال العقود الأخيرة وما يزال. وهذا أمر لا يقتصر على هذا أو ذاك من الساسة ورجال الحكم، وإنما هي ثقافة، كانت رائجة قبل المتنبي وظلت رائجة بعد المتنبي، وما تزال تحتفظ بجاذبية لا حد لها عند كثيرين.

(البطل) في ثقافتنا (ليس في العراق وحده، وإنما في ثقافتنا العربية والشرقية عموما) هو ليس الذي يتراجع عن أخطائه، أو الذي يندم، أو الذي يقر بالفشل، أو المحاط بالمستشارين، أو الذي يسلم بالهزيمة، أو الذي يتقبل النقد. لا. البطل عندنا هو ذاك الذي (تمر به الأبطال كلمى هزيمة)، وهو الذي يجب أن يكون، بالضرورة، (القائد، التاريخي، الأمل).
وهذا أس خرابنا، وعذابنا. خرابنا وعذابنا، لأن (البطل) الذي بهذه الصفات يؤمن إيمانا راسخا بأنه فوق الشبهات، وأعلى مرتبة، بألف مرة، من مراتب بقية البشر، وبالتالي يحق له أن يفعل ما يشاء، لأنه دائما على صواب.
لكن، من هو البطل، على أي حال، وماذا يتوجب على الفرد أن يفعل كي يصبح بطلا، وهل توجد معايير للبطولة ؟ ثم، ألم يحن الوقت لكي نعيد النظر في معاني مفردات قاموسنا اللغوي، ودلالاتها ؟

حالات
لا أظن أن مفردتي (البطولة) و (الشهادة) شاعتا وازدهرتا في بلد آخر غير العراق، منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى هذه اللحظة التي نكتب فيها. على امتداد هذه الحقبة حدثت في العراق انقلابات عسكرية كثيرة، وانتفاضات، وثورات وأخرى مضادة، وحروب، ومعارك أهلية، كان العنف و القسوة، في جميع الحالات، لحمتها وسداها. وفي كل محطة من هذه المحطات تنتصر جهة سياسية منا، فيكون لها (أبطالها) الذين سيحظون بتمجيد أسطوري، وتخسر أخرى، فيكون لها (شهدائها) (الأبطال) الذين سيحظون بتبجيل أسطوري، أيضا.
ولو سألنا من هو البطل الحقيقي بين هولاء، ومن هو اللابطل فأن سؤالنا هذا سيستفز الكثيرين من أتباع ومريدي كل (بطل) من هولاء الأبطال، وسيحتج كل فريق منهم قائلين: كيف تتجرأ وتقارن، مجرد مقارنة، بين صاحبنا وبين هولاء الآخرين، و كيف تساوي بينه وبينهم، وكيف تنزله منزلة واحدة معهم ؟ صاحبنا هو البطل الحقيقي، وما خلاه أوغاد.
لكننا، هنا، لا نقارن ولا نساوي بين الجميع ولا نضعهم بمنزلة واحدة، ولا نصدر أحكاما. نحن نريد أن نعرف، أو نحدد المعيار أو المعايير التي بموجبها نعرف من هو البطل؟
هل عدم التخاذل، ومواجهة الموت بثبات، هما معياران للبطولة ؟ إذا كان الأمر كذلك فأن هذا ما حدث لساسة وحكام عراقيين يختلفون جذريا فيما بينهم lsquo;إلى حد أن كل واحد منهم أراق أو سعى لإراقة دم الآخر. أما إذا توجد معايير أخرى، فما هي هذه المعايير؟
وعندما نتحدث عن (البطولة)، وإعادة النظر في معناها وتعريفها ودلالاتها، فأننا لا نعني هذه المفردة لوحدها، بقدر ما نعني ثقافتنا عموما، أي، المنظومة الأخلاقية الكلاسيكية السائدة، والمفاهيم المتعارف عليها، والآداب، والفنون، والعادات والتقاليد، وأن نعرف هل أن المجتمع العراقي حاليا هو نفسه الذي كان موجودا قبل ثلاثين عاما، قبل حرب الحرب العراقية الإيرانية، مثلا، وبالتالي هل أن (الثوابت) التي كان يسترشد بها مجتمعنا قبل هذا التاريخ ما تزال صالحة؟

العراق تحمل أضعاف ما تحملته أوربا في حربيها العالميتين
الحربان العالميتان، الأولى والثانية، توزعت نتائجها، وكانت كارثية، على أي حال، على مجتمعات لدول بمساحات جغرافية شاسعة، وكثافة سكانية عالية، وإمكانيات مالية كبيرة، وتكنولوجيا متقدمة. أما المجتمع العراقي فأنه تحمل بمفرده نتائج الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثمان سنوات (بالطبع معه إيران). وبعدها نتائج حرب الكويت التي كانت أشد وطأة، ثم الحصار الاقتصادي الذي كان حربا حقيقية أكثر شراسة وأشد وطأة من الحربين، ثم الحرب الأخيرة التي انتهت بسقوط النظام السابق والاحتلال، ثم الحرب الأهلية الطائفية وما رافقها من عمليات تهجير داخلي وهجرة جماعية للخارج، بالإضافة إلى الحروب الداخلية: الأنتفاضة التي أعقبت حرب الكويت، وقبلها حملات الأنفال وتدمير حلبجة، وقبلها تهجير ألاف مؤلفة من العراقيين، بحجة تبعيتهم لإيران.
وهكذا، فأن المجتمع العراقي تحمل، خلال أقل من أربعين عاما، نتائج أكثر من حرب عالمية واحدة.
نتائج الحروب هذه (بما في ذلك، بل في مقدمتها، الحصار الاقتصادي) كانت ترجمتها على أرض الواقع العراقي، ما يلي: أعداد لا تحصى من الأرامل، والثكالى، واليتامى، والعوانس، والمعوقين، والمشردين، والمتسولين، واللصوص، والمتسربين من المدرسة، والمرتشين، والوشاة، والذين اضطروا لبيع الضمائر والذمم علهم يشترون بالثمن خبزا لأطفالهم، والنساء اللواتي تقطعت بهن السبل فلم يبق أمامهن غير بيع الأجساد. . .
هذه الحالات، أو بالأحرى هذه الظواهر الاجتماعية ما كانت موجودة في المجتمع العراقي قبل ستين وخمسين وأربعين عاما، أو لنقل إنها كانت موجودة، لكن بشكل حالات مبعثرة، لكنها في العقود الأربعة الأخيرة ازدادت عددا بشكل مريع، وما زالت الآن متفشية. وهذه الأعداد أو الأرقام ، مهما ازدادت، فأنها تظل كتل صماء، قد تثير انتباهنا، وحتى ذعرنا عند لحظة قراءتها، ثم يطويها النسيان، لكنها عندما تترجم إلى لغة الواقع المعاش يوميا فأنها تعني انحرافات، وجرائم منظمة، وبغاء، وعمليات احتيال وسلب، وتمرد على السائد المألوف، وتفكك أسري، وكل ما يمت بصلة إلى الجحيم.
إذن، أي انعكاسات تركتها هذه الانكسارات على المنظومة الأخلاقية، وعلى النسيج الاجتماعي ؟ بمعنى آخر، هل أن المجتمع العراقي، الذي كان يعيش باسترخاء وطمأنينة، وتكافل بين أفراده في أربعينيات وخمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، هو نفسه المجتمع العراقي الحالي الذي عانى هذه التغيرات التراجيدية العاصفة، والخيبات، والانهيارات والخسائر الكبرى؟ هل أن القيم التي كانت سائدة في بداية ووسط القرن الماضي،ما تزال هي هي، لم تتغير معانيها وتعريفاتها، ودلالاتها، كالبطولة، والرجولة، والشهامة، وعزة النفس، والوفاء، والشرف، والإخلاص، والعفة، والكرامة، والحب ؟
quot;لو أن أبني نشأ، في هذه الأيام، عفيفا لعرضته على طبيب نفساني يفحصه.quot;
ذكرنا توا أوربا ونحن نتحدث عن العراق. فعلنا ذلك، ليس لنقارن بين المجتمعات الأوربية وقتذاك والمجتمع العراقي حاليا. استشهدنا بأوربا لأنها عاشت، هي الأخرى، نتائج الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وعاشت قبلهما أحداثا (لم يعرفها العراق، بالطبع) هي التغيرات العاصفة التي أحدثتها الثورة الصناعية. فماذا كانت النتائج ؟
نتائج الثورة الصناعية، خصوصا في أوربا الغربية كانت، على الصعيد الاجتماعي/ الأخلاقي، كارثية: تفاوت طبقي مريع، تفكك أسري، تفشي البغاء والسرقة، ارتفاع معدلات الجريمة، تزايد أعداد المشردين. وحتى نختصر ونقرب الصورة نذكر الحادثة التالية: في أحدى المرات كان الروائي الانجليزي تشارلس ديكنز (1812-1870) يناقش مع زملاء له موضوع تفشي الرذيلة بشكل مخيف وقتذاك، فقال للحاضرين، مستغربا أن ينشأ الفرد سليما: quot;لو أن أبني نشأ عفيفا شريفا في هذه الظروف فسأعرضه على طبيب نفساني يعالجهquot;!
أما في ما يتعلق بتأثيرات الحربين العالميتين، فأن المجتمعات الأوربية ما بعد الحرب الأولى لم تكن هي نفسها التي كانت قبلها، وكذلك في ما يخص الحرب العالمية الثانية. التغيرات تلك طالت كل ميادين الحياة، ولم توفر ميدانا واحدا.
وعلى الصعيد الثقافي، عبرت تلك التغيرات العاصفة عن نفسها عن طريق أعمال روائية وشعرية ومسرحية وفنية، وظهور حركات أدبية وفلسفية وفنية كثيرة ومتنوعة. لولا تلك الحروب لما ظهرت (الأرض الخراب)، ولا (يولسس)، ولا روايات د. ه. لورنس، ولا شعر سيفرد ساسون ورفاقه شعراء الحرب العالمية الأولى، ولا (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية)، ولولاها لما كتب أودن وأبناء جيله ما كتبوا من نقد جارح وهجاء للإمبراطورية البريطانية وكل العادات والأخلاق الكلاسيكية القديمة، وما ظهر مسرح الغضب، ولولا تلك الحروب لما ظهرت الانطباعية والسريالية والدادائية والتكعيبية، ولا الوجودية ولا مسرح العبث، وما ظهر (الجيل الضائع)، ولا حركات الهيبين، وما ازدهرت منظمات المجتمع المدني، وما تعاظمت حركات الاحتجاجات الاجتماعية، والتنظيمات المهنية والنقابية، وما تنامت الحركات النسوية، بل ولما ظهر (البكيني)، وما ارتدت النساء سراويل الرجال. باختصار، الأحداث الكبرى تخلق تغيرات كبرى، فيها الغث وفيها السمين.
فهل خلقت الأحداث الكبرى التي عاشها المجتمع العراقي تغيرات كبرى بحجمها؟


مجتمعنا العراقي ملائكي، أم هو مجتمع ميت؟
إذا ظلت القيم العراقية القديمة هي نفسها لم تتغير بعد كل هذه الكوارث التي حدث على امتداد نصف القرن الماضي، فنحن أمام أمرين: إما نحن مجتمع أفراده كلهم من الملائكة، أو هو مجتمع ميت. الأمر الأول غير صحيح، إطلاقا، لأن الواقع يكذبه. فنحن لسنا ملائكة، بل نحتل المرتبة الأولى من حيث ارتفاع معدلات الفساد. وهو فساد طال كل مفاصل الحياة، بما في ذلك المؤسسات الدينية، كالوقف الشيعي والوقف السني، طبقا لتقارير هيئة النزاهة. الأمر الثاني غير صحيح، أيضا. فنحن مجتمع متحرك، لنا أحزابنا الكثيرة، ومنابرنا الإعلامية المتنوعة، ولنا انتخاباتنا، ولنا اتحاداتنا وتنظيماتنا ومجالسنا الأدبية، ولنا معاهدنا التعليمية المتزايدة، ولنا مساجدنا وجوامعنا المنتشرة في كل مكان، بل ولنا معاركنا وملاسناتنا.
إذن، هل هناك إرهاصات أو بدايات لولادة مجتمع عراقي جديد، ولماذا لم يولد حتى الآن، وقد زال النظام القمعي الشمولي الذي يديره فرد واحد وحزب واحد، يقيدان حركة المجتمع ؟ هل أن الولادة آتية لا ريب فيها، وكل ما نعيشه هي فترة مخاض ؟ لماذا تأخرت الولادة، وقد مرت سبع سنوات، ومن وما يؤخرها أو حتى يمنعها ؟ أين الخلل، وما هي المشكلة؟
هذه الأسئلة قد تجد من يرفضها، جملة وتفصيلا، ويقول إن المجتمع العراقي الجديد الفاضل المتكامل قد ولد فعلا، وكل من يطالب بتغيرات، أو يطرح أسئلتها، إنما يريد إفساد المجتمع وتدميره. فهل هم محقون؟
يتبع: كاميرا رجل الدين مناف الناجي، وسيرك البصرة.