أصدرت المحكمة الجنائية العليا ببغداد أحكاما بالإعدام على مجموعة من رجال العهد السابق، بينهم طارق عزيز، بعد إدانتهم في قضية quot;تصفية الأحزاب الدينيةquot;. وتعقيبا على صدور القرار، قال جعفر الصدر، عضو البرلمان العراقي عن كتلة دولة القانون، و نجل مؤسس حزب الدعوة آية الله محمد باقر الصدر الذي أعدم من قبل النظام السابق عام 1980، أن أفضل quot;انتقام للشهداء هو، بناء عراق متسامح.quot;

ونشرت صحيفة (العالم) البغدادية في عددها الصادر في 27 أكتوبر 2010 تصريحا لمقرب من جعفر الصدر ورد فيه : quot; أنه ورغم ما يشكله استشهاد والده محمد باقر الصدر من فاجعة ليس فقط لأهله ومحبيه ومريديه بل ولعدد كبير من أبناء الشعب العراقي، إلا أن عائلة الشهيد لم ترفع أي شكوى قضائية ضد من تبقى من رموز النظام البائد. إن جعفر الصدر لم يتردد يوما من التذكير بأن ذكرى استشهاد والده تدعوه أكثر مما مضى للعمل على بناء عراق معافى ومتصالح مع نفسه والمستقبل، والإصرار على تربية الأجيال الجديدة بروح من التسامح والمسؤولية. إن الانتقام المقبول لاستشهاد والده كان وما يزال يكمن في إعادة بناء العراق على أساس قانوني يتمتع فيه المواطنون بكافة حقوقهم الاجتماعية والسياسية والروحية والاقتصادية.quot;

هذه حكمة وهذا نضج، ليس فقط بالمعنى الأخلاقي الفردي، ولكن، أيضا وقبل كل شيء، بالمعنى السياسي التشريعي العام. وعندما يرد كلام كهذا على لسان ضحية (جعفر الصدر) بحق جلادها ( النظام البعثي السابق) فأنه يحمل دلالة رمزية كبيرة. نعم، لا يمكن لعراق ما بعد صدام حسين أن يضمد جراحه وينهض من محنته ويسير على قدميه إلا بتطبيق وتعميم ثقافة (التسامح)، والشروع، من الآن، بفتح صفحات جديدة في تاريخ العراق، بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي إحداث قطيعة شاملة مع ثقافة العنف التاريخية التي عاش ويلاتها العراقيون. إنها مهمة صعبة إلى حد المستحيل. نعترف. لكن ما من بديل أخر أمامنا غير الاستمرار في الدوران داخل دوامة العنف القاتلة.

يقول المهاتما غاندي: quot;لا أحب مفردة تسامح، ولكني لا أجد مفردة أخرى أفضل منها.quot; وهل يحبذ مفردة تسامح العراقيون، بكل طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم وقومياتهم، بعد أن حولهم التاريخ (تاريخ بلدهم)، إلى ضحايا وجلادين، في آن واحد، خلال السنوات السبع الأخيرة. السنوات الأخيرة ؟ لا بل قبل ذلك بمئات السنين. يكفي أن نتصفح أمهات الكتب التاريخية لنعرف مقدار العنف الرهيب وحالات الانتقام المتبادل التي عرفها العراقيون على امتداد تاريخهم، و كيف يتناسل العنف ويصبح منقعا بمزيد من القسوة، وكيف تتنوع فنونه من جيل عراقي لأخر، وكيف تتبدل الأدوار فيتحول الجلاد إلى ضحية، والضحية إلى جلاد. ولا مخرج من مأزق العنف إلا بركوب المركب الأصعب، التسامح.

والتسامح لا يحدث بين رفاق الدرب الواحد، والحزب الواحد، والعشيرة الواحدة، والمذهب الواحد، والأيدووجيا الواحدة، والطائفة الواحدة، والدين الواحد. التسامح لا يحدث بين المؤتلفين، إنما بين الأضداد.

في بيانه الشهير ( رسالة حول التسامح) الذي نشر عام 1689، يلخص جون لوك فلسفة التسامح بأنها تعنيquot; الكف عن محاربة ما لا ليس بمقدورنا تغييره.quot; وبفكرة لوك هذه، ومن قبله توماس هوبس وديكارت، ومن بعدهم بير بايل و منتسكيو و فولتير و ديدرو و روسو وآخرون استطاعت أوربا أن تغسل جسدها وروحها من دماء العنف التي تسربلت بها لقرون طويلة نتيجة حروبها الأهلية الطاحنة، حتى تحولت تلك الأفكار، بمرور الزمن، إلى نصوص قانونية وفقرات دستورية، وممارسات يومية يطبقها الجميع.

وعندما نستشهد بفلاسفة أوربا في مسألة التسامح، فليس بسبب ولع خاص بحضارة الغرب، ولا بسبب مشاعر دونية إزاء ما هو غربي، وليس لأن أوربا ما بعد عصور التنوير أصبحت جنة الله على الأرض، وإنما نفعل ذلك لسببين، أولهما، إننا (استوردنا) من الغرب كل شيء: النظام السياسي، والإداري، والتعليمي، والدستور، وصناديق الانتخابات، والنقابات، وحتى ربطة العنق، لكننا رفضنا وما زلنا نرفض (استيراد) مكتشفات أوربا الأخرى، وأهمها فلسفة التسامح. والسبب الثاني هو، أن أوربا غيرت مسارات دروبها عندما تيقنت أن تلك المسالك أضحت مسدودة ولا تفضي إلا للدمار، ونحن جربنا، بما فيه الكفاية، quot;ما يلاءم عاداتنا وتقاليدنا وبيئتناquot;، وهذه ذرات، ليس إلا، من تجاربنا التي رواها لنا المؤرخون:

quot; تتبع معاوية بن أبي سفيان، عندما استتبت له الأمور، عمرو بن الحمق الخزاعي (من أصحاب الأمام علي) فأذكى عليه العيون والأرصاد (لأنه هرب منه) واعتقل امرأته، وحبسها في سجن بدمشق، ثم أمسك بعمرو فقتله، وقطع رأسه، وأمر أحد أعوانه بأن يدخل على المرأة في سجنها وأن يضع رأس زوجها في حجرهاquot;. فرض الحجاج منع التجول على أهل الكوفة، وخاطبهم قائلا: quot;إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده. وإياكم... وقال وقيل، وما يكون وما هو كائن. ولتدعن الإرجاف، وكان وكان وأخبرني فلان عن فلان.quot; quot; أمر الرشيد قصابا بتفصيل جسد أخ لأحد الثائرين عليه بمدى كليلة، زيادة في تعذيبه، ثم أمر بعد أشلائه، فإذا هي أربعة عشر شلوا، ثم رفع يديه إلى السماء، وحمد الله على ذلكquot;. quot; لما قتل المستعين أمر المعتز فوضع رأسه بين يدي جاريته التي كان يتحظاها. (...) ولما اعتقل الوزير أبو الحسن الفرات وولده المحسن، بعث نازوك بعجيب خادمه، فضرب عنق المحسن، وجاء برأسه فوضعه بين يدي أبيه. (...) واعتقل القاهر كلا من علي يلبق وأباه يلبق ومؤنس المظفر، ودخل القاهر إلى موضع اعتقالهم فذبح علي بن يلبق بحضرته، ووجه برأسه إلى أبيه، فلما جزع وبكى بكاء عظيم، تم ذبح يلبق، ووجه بالرأسين إلى مؤنس، ثم أمر القاهر فجر برجل مؤنس إلى البالوعة، وذبح كما تذبح الشاه، والقاهر يراه.quot; quot;شوى المعتضد أحد الخارجين عليه وهو حي، وعذب وزيره إسماعيل بن بلبل، فجعل في عنقه غلا فيه رمانة حديد، وألبسه جبة صوف وعلق معه رأس ميت، فلم يزل على ذلك حتى مات.quot; quot;في باب الأنبار (إحدى أبواب بغداد) علق رأس الأمين لما قتل، ومن هذا الباب أدخل رؤوساء القرامطة، صاحب الشامة والمدثر والمطوق مع بقية الأسرى في السنة 291 حيث أحتفل بتعذيبهم وقتلهم.quot;

تلك التقاليد التي quot;تتلاءم مع بيئتناquot; هي التي (فرخت)، في العراق المعاصر، كواتم الصوت، وأحواض التيزاب، وحملات الأنفال، وحلبجة، وتقطيع جثث الضحايا إلى (أربع وصل)، وأخيرا، الرؤوس المقطوعة (للروافض والنواصب) الموضوعة داخل صناديق موز، وتلك المثقوبة بالدريل، والأخرى الطافية على مياه دجلة، وتلك التي غصت بها مياه مجاري الصرف الصحي. وفي كل مرة من هذه المرات، قديما وحديثا، عندما ينتهي الفاعل من فعلته، فأنه يغسل يديه من الدم الذي تلطختا به، وربما يتوضأ ويرفع يديه إلى السماء ويحمد الله على ما فعل.

من الظالم ومن المظلوم ؟ من البادئ ومن يدرأ الخطر ؟ من الضحية ومن الجلاد ؟

هذه أسئلة بطرة، عمياء، وعقيمة. وإذا كان هناك سؤال قد يملك قدرا من المنطق فهو: من المسؤول عن هذه الأفعال الجهنمية التي تتم بأسم الدفاع عن الدين مرة، و المذهب ثانية، و العشيرة، و القومية، والايدولوجيا، وعن كرسي الحكم، وهل ستتوقف في يوم من الأيام ؟

المسؤول الوحيد هو رفضنا لمن يخالفنا الرأي، وإصرارنا على إلغائه معنويا وجسديا. وهذا يعني غياب كل ما هو جوهري في الحياة: العدالة، والقانون، والحرية، والعيش المشترك، وحتى إنسانية الإنسان. أما إذا أردنا أن نعرف، هل يتوقف العنف على أرض العراق، فعلينا أن نعيد ونعيد ونعيد ما قاله جعفر محمد باقر الصدر، وهو يعلق على صدور أحكام الإعدام بحق الذين اتهموا بقتل والده. إنه كلام يبشر بخير، أولا لأن السيد جعفر الصدر ينتمي لجيل السياسيين الشباب، وثانيا لأنه ضحية مباشرة للعنف، وثالثا لأنه يتمتع بشعبية كبيرة كشفت عنها أعداد الأصوات التي حصدها في الانتخابات الأخيرة، ورابعا لأنه، وعلى رغم سنه، يملك تجربة دينية، وبدأ الآن بخوض تجربة سياسية مدنية، وأخيرا، لأنه يملك شجاعة استثنائية، فموقفه الذي ذكرناه ليس سوى سباحة ضد تيار جارف، وصوت نشاز.

والمجتمعات لا تغيرها إلا الأصوات النشاز.