quot;في وقت متأخر من مساء الأحد 28/11/2010 قامت قوة مسلحة من الشرطة والأمن السياحي وعمليات بغداد باقتحام مبنى اتحاد أدباء العراق بساحة الأندلس وطالبوا أمينه العام الشاعر الفريد سمعان بتوقيع محضر إغلاق النادي الاجتماعي للأدباء بشكل نهائي أسوة بالنوادي الليلية والملاهي والبارات.quot;
من هي الجهة التي أصدرت ونفذت هذا القرار وبهذه الطريقة البوليسية الاستعراضية الهمجية؟ هل هي الحكومة العراقية المركزية، أم هي quot;حكوماتquot; quot;طلفاحيةquot; مصغرة ، تجتهد على هواها، وتتعامل مع القوانين مثلما تشاء، فتضعها على الرف متى ما شاءت وتطبقها متى ما رأت أن الأوضاع ملائمة، وهي تفعل ذلك بموازاة الحكومة المركزية، أو بالتضاد معها، استنادا لتفسيرها الخاص للنصوص الدستورية؟
ما هي الحيثيات التي استند عليها من أصدروا ونفذوا القرار؟ هل، فقط، لأن النادي يسمح لرواده بتناول المشروبات الكحولية، أم هناك أسباب أخرى؟
لا نعتقد أن الجهات الحكومية العليا، أي مجلس الوزراء، هو من أصدر ونفذ القرار المذكور، و لو كان مجلس الوزراء هو الذي فعل ذلك فهذا يعني أننا أمام حكومة كانت، طوال أربع سنوات، تحكم البلاد وهي عمياء، لا ترى ما يدور أمامها، وكل ما كانت تصرح به وتعلن عنه هو عكس ما كانت تضمره. فالجميع يعرف أن النادي الاجتماعي، الذي تم إغلاقه الآن، كان موجودا طوال السنوات الأربع الماضية بل قبل ذلك، والجميع يتذكر جيدا ما كانت هذه السلطات العليا تقوله حول حرصها على ضمان الحريات العامة والخاصة، داخل إطار quot;دولة القانونquot;.

لا تكول quot;طلفاحquot; راح، طلفاح نايم بالمراح
هذا العنوان الفرعي هو تحوير لمثل شعبي عراقي يقول: ( لا تكول شباط راح، شباط نايم بالمراح)، وهو يضرب لمن يصدق ظواهر الأمور ويستعجل استنباط النتائج. وأصل المثل أن أحد الفلاحين أخرج بقرته من زريبتها وتركها تسرح في المراح، أي في الخلاء، بعد أن ظن، لسذاجته وخطل استنتاجه، أن شهر شباط ببرده القاتل قد ولى نهائيا ولم يعد، لكن عندما حل المساء كانت البقرة قد نفقت بسبب شدة البرد الذي اعتقد الفلاح أنه رحل مع شهر شباط. وفي صباح اليوم التالي سمع الفلاح من يقول، مستبشرا، أن شهر شباط قد ولى وحل الربيع، فرد عليه بغضب وبحزن: (لا تقول شباط راح، شباط نايم بالمراح.)
أما quot;طلفاحquot; فهو، لمن لا يعرفه، الحاج خير الله طلفاح، خال صدام حسين ووالد زوجته، ووالد وزير الدفاع الأسبق، عدنان خير الله. وبسبب صلة الرحم هذه فأن صدام عينه محافظا لمدينة بغداد، عندما وصل البعثيون للسلطة عام 1968. ومنذ أن أصبح في منصبه راح الحاج طلفاح يسوس البغداديين على طريقته الخاصة، ويحكم كأنه هو الذي يشرع القوانين، وليس مجرد موظف في الدولة. وأول ما شرعه الحاج طلفاح من قوانين قراقوشية هو، إصداره الأوامر للشرطة بمطاردة الفتيات في الشوارع والمحلات العامة، ورش الأصباغ على سيقان أي فتاة لا ترتدي ملابس quot;غير محتشمةquot;، وقص شعور الفتيان بحجة مكافحة الميوعة والتخنث ولمنعهم من مجاراة موضة quot;الخنافسquot; التي كانت شائعة وقتذاك. وبعد أن أنهى مهمته، التي كان هدفها، كما كان يؤكد، المحافظة على الأخلاق وتحصين المجتمع ضد الرذيلة، تحول الحاج طلفاح إلى منظر إسلامي، يفتي في كل شيء، في التاريخ، وفي شؤون المجتمع، وفي الأخلاق، وفي الفنون، وفي المقارنة بين الأعراق البشرية. ففي مجال الغناء، مثلا، أفتى طلفاح بحرمة غناء الرجال، وفي موضوع الأزياء أفتى طلفاح أن quot;العباءةquot; هي اللباس المحتشم الوحيد الذي على المرأة أن تتلفع به، وما خلا ذلك فساد وخلاعة وتشبه بالغرب الكافر. ولم يكتف الحاج طلفاح عند هذا الحد، وهو أمر منطقي وطبيعي ومتوقع، فراح، انطلاقا من فلسفة متكاملة عنده، يفتي بقتل (اليهود والذباب والفرس) لأنه يجد من الصعب عليه أن يهضم إرادة الله في خلق هذه المخلوقات الضارة، ثم كرس جهده لتفنيد معتقدات الشيعة في محاولة منه ل(تشريح دين خميني)، كما قال. وعندما ضاق صدام ذرعا من تصرف خاله الحاج طلفاح وأزداد تذمر الناس من قوانينه، فأنه غضب عليه وأبعده من وظيفته، وعينه رئيسا لدائرة أقل شأنا هي، مجلس الخدمة العامة، رغم أن الحاج لم يتوقف من التنظير على طريقته الخاصة حتى ساعة موته، برضا من صدام خصوصا أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
ذكرنا الحاج طلفاح ليس كأسم، وإنما كنمط من التفكير، وكحالة تنشأ داخل الدولة أو على ضفافها، وعندما لا تجد من يستأصلها أو يردعها فأنها تصبح هي الوضع الطبيعي المقبول، وما خلاها شاذ وغريب. وظهور حالة كهذه لا يقتصر على هذه الفترة التاريخية أو تلك، وعلى هذه الحكومة أو تلك. إنها حالة تتكرر دائما وأبدا، ما دام هناك غياب في تكامل الرؤيا لدى من يحكم البلاد، وما دام هناك غياب لدولة القانون والمؤسسات، وما دام هناك انفصال بين الأقوال والأفعال. وها نحن نشهد بوادر لعودة quot;الطلفاحيةquot; من جديد.

ليس كأس الخمر هو المقصود إنما الديمقراطية
نعرف جميعا أن رئيس الوزراء السيد نوري المالكي حصل على الشعبية التي حصل عليها، ليس بصفته قائدا لحزب بعينه، إنما بفضل رفعه لشعار quot;دولة القانونquot;، بكل ما كان يعنيه هذا المصطلح من فرضيات وتوقعات وأمال لترسيخ الممارسات الديمقراطية، وضمان الحريات العامة والخاصة، والاحتكام لمواد الدستور، ومواكبة (روح) العصر الجديد الديمقراطي في العراق. ونعرف، أيضا، أن هذا الشعار رفعه المالكي بعد أن خاض معركته الشهيرة ضد ما أسماهم بالخارجين عن القانون، أي المليشيات الحزبية التي كانت تطبق quot;قوانينquot; quot;طلفاحيةquot; خاصة بها، ليس في المجال الأمني، وتهريب النفط فحسب، وإنما في جميع مناحي الحياة، وخصوصا الجانب الأخلاقي/ الاجتماعي.
بالتأكيد، أن تلك المعركة التي خاضها المالكي ضد المليشيات لم تكن بسبب قطيعة أو فوارق آيدولوجية بينه وبينها، فالطرفان يقفان على أرضية أيديولوجية واحدة. المعركة حدثت، أو يفترض أنها حدثت بسبب فهم كل من الطرفين ل(روح) الدستور الجديد، وليس فقط نصوصه. وليس مجرد صدفة أن يشهد المجتمع مزيدا من الانفتاح مباشرة عقب انتهاء تلك المعركة، مثلما ليست صدفة أن يحصد المالكي هذه الشعبية الواسعة.
الآن، وبعد تحقيق هذا الانفتاح، رغم أنه يسير حتى الآن بحياء وبطريقة متعثرة، يتم بذل محاولات جادة ومستميتة من قبل جميع الأطراف المتزمتة، بما في ذلك بعض أفراد داخل حزب الدعوة نفسه، لإيقاف عملية الانفتاح، أما عن طريق تهويل الأمور وكأن البلاد كلها تحولت إلى ماخور، أو عن طريق إحياء قوانين قديمة ونفخ الحياة فيها، أو عن طريق الهروب للأمام، أي التركيز على قضايا سطحية ، بدلا من مواجهة المشاكل الكبرى التي يعاني منها العراقيون.
يقول كتاب توضيحي صادر من مجلس محافظة بغداد، بشأن غلق النادي الاجتماعي في اتحاد أدباء العراق، أن (ما قام به المجلس هو متابعة تنفيذ القرار رقم 48 لسنة 2009 والذي قضى بغلق محلات الخمور والملاهي والنوادي وصالات الرقص الغير مجازة قانونا أو تلك المنتهية مدة صلاحيتها إجازتها.)
إذن، أين كان المجلس طوال هذه الفترة، ولماذا لم يتم الإغلاق قبل الآن؟ ثم، هل يتساوى مكان يؤمه مثقفو العراق ومبدعوه مع ماخور ليلي؟ نعرف أن جواب المجلس سيكون: القانون هو القانون. لكن مجلس المحافظة يعرف ونحن نعرف أن القانون كتلة صماء، و(روح) القانون هي الأكثر أهمية، خصوصا إذا كان منفذو القانون ليسوا موظفين مسلكيين، وإنما ينتمون لشريحة المثقفين.
قلنا ونكرر القول إن المسألة كلها لا تتعلق بشرب كأس خمر، أو قصة شعر، أو ارتداء ثوب نسائي ينقصه سنتمتر في الطول، ولاهي عجز في فهم القوانين ومواد الدستور، ولا هي حرص خاص على نشر الفضيلة. إنها تعبير عن صراع لن يتوقف حول (عراق يسير في اتجاه رقيه)، على حد تعبير مجلس محافظة بغداد في بيانه حول غلق نادي الأدباء: بعض يؤمن أن رقي العراق لا يتم إلا بالقمع، مهما لبس هذا القمع من عباءة، والبعض الآخر يؤمن أن رقي العراق يتم بإشاعة الديمقراطية، وضمان الحريات العامة والخاصة، وإشاعة روح التعايش، ليس على الصعيد السياسي فحسب، إنما في جميع مجالات الحياة. وكل ديكتاتورية في العالم تبدأ، أول ما تبدأ، بتقليم الأظافر، لكنها لا تنتهي إلا بجز الرؤوس.