quot;بطاقة هويةquot;، التي تبدأ بالمطلع: quot;سجل أنا عربيquot;، هو عنوان لقصيدةٌ مشهورة، فجّرها شاعر العرب الكبير، الراحل محمود درويش، ذات فلسطين، لquot;يشويquot; بها quot;لحم مغتصبيه، ويأكله إن جاع أو غضبquot;، كما سجّل في ديوانه الثاني، quot;أوراق الزيتونquot; عام 1964.

على الرغم من مرور حوالي نصف قرنٍ، على انفجار هذا quot;الغضب الدرويشيquot;، إلا أنّ ملايين عربية كثيرة، لا تزال تردد الهوية الفلسطينية العربية الغاضبة ذاتها، بالعروبة ذاتها، في جملة عربية لا تزال هي ذاتها: quot;سجل أنا عربيquot;، وذلك للتعبير عن غضبها العربي الدفين، ضد مغتصبيها ومحتلي فلسطينها، إسرائيل، أولاً وآخراً.

بعد النجاح العربي الكبير،الذي قاده قادة الشوارع في كلٍّ من تونس ومصر، طفقت الكثير من الأصوات العربية، من النخبة وما حولها، تسجّل عالياً من جديد، ما سجله درويش من قبل، بفخرٍ عالٍ: quot;سجّل أنا عربيquot;.

لا شك أنّ ما شهدناه(ولا نزال) من تاريخٍ جديدٍ تصنعه وتسجّله الشوارع العربية، منذ غضب quot;التونسي الأخيرquot; محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر الماضي، حتى ميدان التحرير في مصر، لهو quot;تاريخٌ عالٍquot; بإمتياز، يسجل لكل عربيٍّ، تسكنه الحرية، أو يريد السكن فيها، مغرباً أو مشرقاً.
ما سجّلته الشوارع العربية الغاضبة، في تونس ومصر، من صعودٍ كبيرٍ للحرية، أو علوٍّ لإرادة الشعب، هو بكلّ تأكيد، تاريخٌ مفخرة، لكلّ أهل الضاد، من المحيط إلى الخليج.

آخر ما قرأته في شئون هذا التسجيل العربي العالي، هو quot;بطاقة هوية عاليةquot;، لمواطني السوري، صاحب quot;الإتجاه المعاكسquot; في قناة الجزيرة القطرية، د. فيصل القاسم. الذي اختار مطلع قصيدة درويش السالفة الذكر، quot;سجل أنا عربيquot;، عنواناً لعروبته، في مقالٍ له، منشور أمس(13.02.11)، في جريدة الشرق القطرية.

دون أدنى أيّ شك، أن من حق د. القاسم، أن يشعر كعربيّ سوري، بquot;قيمةٍ عظيمةquot;، بعد ما سجله الشعبان التونسي والمصري، من دخولٍ عظيم، وعالٍ، في تاريخ العرب الحديث.
ومن حق بعض ضيوفه أيضاً، بعد ثورتي شعبي تونس ومصر، أن يعتذروا للشعوب العربية، التي طالما كانوا يسمونه بquot;القطعان المسيّرةquot;، كما سماها، أو كانوا يسمونها، يوماً.
ومن حقه كعروبي، أن يردد بعد الغضب العربي الأخير، quot;الأبيات العروبيةquot;(والتوصيف يعود إليه)، القائلة: quot;بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدانِ... ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوانِquot;، كما يشاء، أو تروق لها عروبته الثائرة اليوم.
ومن حقه أيضاً، وهو السوري، أن يفرح بquot;هروب ديكتاتور تونس، وخلع الفرعون السافل عن عرش مصرquot;، كما قال.

وأنا أقرأ كل هذا الفرح العربي العظيم، والمنقطع النظير بين سطور القاسم الشاعر بنشوة عالية، وهو يصيح في وجه العالم كيquot;يسجله عربياًquot;، تذكرت في الضفة الأخرى من العروبة، سورياً، حيث مسقط رأس quot;أكراد القاسمquot; في الشمال السوري، تذكرت الخبر الكردي السوري بإمتياز، الذي نُشر، قبل يومين، يقول: quot;قام العنصر المناوب من شرطة كراج قامشلي بمنع سفر المواطن (المكتوم) دلاور محمود علي والدته فهيمة تولد 1987 وذلك على رحلة بولمان لشركة quot;جوانquot; للسياحة والسفر، في منتصف ليلة 8/2/2011 بعد تدقيق البطاقات الشخصية، بعدما تبين له بأن المذكور من عداد المكتومين، بعد إبرازه لبيان المكتومية الذي حصل عليه من قبل أحد المخاتير، للعلم أنه كان سيسافر إلى دمشق مضطراً بسبب ظروفه الاقتصادية الصعبة، لإعالة أسرته ومساعدة والده في تأمين لقمة الأسرةquot;(نشرة منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف، 11.02.11 ).

quot;مواطن سوري مكتومquot;، واحد في ثلاث متناقضات: quot;مواطن وسوري ومكتومquot;، وما أدراك ما المكتوم!
المكتوم، بموجب ما يسمى بquot;إحصاء 1962، هو الممنوع من القيد في سجلات القيد المدني، أي الممنوع من الهوية.
هو، بإختصار،، quot;خارج سوريquot; أو quot; دون سوريquot;، أو quot;أجنبي سوريquot;، كما يسمى في سجلات القيد المدني السورية.
المكتوم سورياً، هو quot;كردي سيّارquot;، بلا جغرافيا ولا تاريخ، ممنوع من التسجيل في سجلات الدولة الرسمية، وممنوع من الدراسة، والعمل، والأخذ والرد التجاريين، والإقامة خارج حدود بيته(كالنوم في الفنادق مثلاً)، والسفر خارج القطر، فضلاً عن الممنوعات الأخرى، وما أكثرها سورياً.
المكتوم، بموجب المنظور الرسمي، إذن، هو quot;سوري نكرةquot;، بدون quot;بطاقة هويةquot;، سوري ولاسوري في آن، أو مخلوق في سوريا أباً عن جد، وquot;مخلوق فضائيquot; في آن.

في ذروة الحماس العربي، الذي كان يشعر د. فيصل القاسم، كعربي سوري، بquot;عروبةٍ عظيمةquot;، ويتهيأ لquot;دخولٍ عظيمquot;، في quot;تاريخٍ عربيٍّ عظيمquot;(وهو بعد تونس ومصر لكذلك) ليقول للعالم، لمن شاء أو أبى، عالياً: quot;سجّل أنا عربيquot;، في ذات اللحظة العربية العالية تلك، كان هناك في الجهة الأخرى القصية، من وطنه quot;العربي السوريquot;، مواطن كردي quot;مكتومquot;، بلا هوية، مولود في سوريا، أباً عن جد، وممنوع من السفر من القامشلي إلى دمشق، كما هو مسجّل في quot;هويته المكتومةquot;.
أما السبب في هذا المنع أو الترخيص لquot;بطاقة مكتومةquot;، فهو quot;أمني بسيطquot;، ذلك لأن القائمين على سجلات القيد المدني السورية، قد سجلّوه إلى جانب عشرات الآلاف من أكراده، تحت خانة quot;المكتومquot; أو quot;الأجنبيquot;، لأنهم quot;خطرين على أمن الدولةquot;، وينوون quot;اقتطاع جزء من أراضي سوريا وإلحاقها بدولة أجنبيةquot;!

في ذات الوقت، الذي كان يريد د. القاسم أن يشرب نخب العروبة العظيمة المشتعلة، في شوارع مصر الكنانة، وتونس الخضراء من قبلها، قائلاً: quot;سجّل أنا عربي، ورقم بطاقتي ثلاثمائة مليون وأكثر، كان مواطنه الكردي السوري quot;دلاوَرquot;، يشرب مع عشرات الألاف من مواطنيه الكرد quot;المكتومينquot; أو quot;الأجانبquot;، في زاويةٍ نائية من كراج القامشلي، نخب وطنه quot;العربي السوريquot;، قائلاً: quot;كاسك ياوطن..سجّل أنا سوري مكتوم، ورقم بطاقتي ثلاثمائة ألف وأكثر!quot;.

مواطنان سوريان، إذن، أحدهما يصرخ من حرير دمشق: quot;يا الله! يا الله! يالله! لقد أصبح لنا قيمة عظيمة.. سجّل أنا عربيquot;، هو فيصل القاسم، وآخر يصرخ من على رصيف كراج القامشلي: quot;يا الله! يالله! يا الله! لماذا خلقتني خارجاً على المكان والزمان في آن..سجّل أنا سوري مكتوم!quot;
سوريا واحدة، ومواطنان: أحدهما معرفة والآخر نكرة.
سوريا واحدة، وهويتان: واحدة عربية، علنية، معلومة، وأخرى نكرة، سريّة، كردية مكتومة.
سوريا واحدة، وصرختان: واحدة تقول بفرحةٍ عظيمة: quot;سجّل أنا عربي معلومquot;، وأخرى تقول بقرحةٍ عظيمة: quot;سجّل أنا كردي سوري مكتوم!quot;.

أنها مفارقات وطن:
هنا، السكوت على الهوية من ذهبٍ، أما هناك فالصراخ بالهوية جواهر.
هنا، الوطن شيطانٌ رجيم، فيما الوطن هناك رحمَنٌ رحيم.


[email protected]