لا أكثر شيوعا على ألسنة النساء في العالم العربي هذه الأيام من العبارات الدالة على الرعب مثل: يا لهوي، أو يا لهو بالي المصريتان أو: يبووووو العراقية، أو: ولييي على قامتي السورية. لا ادري ما يقول اليمنيون والليبيون والبحرينيون والتوانسة للتعبير عن الدلالة ذاتها، لكنني أحدس أنهم سيظلون يكررونها بلهجاتهم ما دمنا في ربيع الثورات العربية الدامي. القتلى كثر والنساء لا يتوقفن عن الولولة في هذا البلد أو ذاك وهن يلطمن الصدور ويخمشن الوجوه صارخات نادبات بلهجة كأنها أغنية سوداء تتبدل أنغامها من مدينة إلى أخرى.
مرة سألت صديقا مصريا عما تقوله النسوة هناك أثناء التعزية بفقد أحدهم. فأجاب ضاحكا وهو يقلد لهحة الصعيديات ـ أبكي عليه وقولي.. كان جدع شملولي! والعبارة هذه تشابه ما تقوله المرأة العراقية أثناء quot;الملاجاةquot; أي الملاقاة، وهي ممارسة طقسية معروفة تأتزر المعزية فيها بزنار من القماش ثم تترنم صياحا بنغمة موسيقية قبل الدخول الى المأتم، تراها تلاقي صويحباتها بعبارة مثل هذه ـ كل يوم الدنية تبز عيني.. أي أن الحياة لا تتوقف عن بز عيني بالأخبار السيئة يوميا.
الحق أن عبارة: يا لهوي ويا لهو بالي قد تكونان أصدق بكثير من تلك الممارسة الطقسية التي يختلط فيها الصدق بالنفاق الاجتماعي فـquot;يا لهوي quot; تستبطن معنى المفاجأة وهي تحيل دلاليا لملامة النفس لأن اللهو أخذها في لحظة فلم تشعر إلا والمصيبة تحط على رأسها من علو. ولعلي أستطيع القول أن العبارة من أبلغ العبارات إذ هي تحيل إلى علاقة قديمة عرفها مخيال الأنسان بين لهو البال ومجيء المصائب؛ ما هي إلا أن تسهو لحظة حتى يفاجئك القدر من حيث لا تعلم ولذا نقول في الأمثال: الحذر غلب القدر.
أما عبارة: يا خرابي فلا تحتاج الى شرح، إنها اشارة لخراب وقع في الجسد والروح بسبب هول مشكل ما أو فقدان عزيز، وهو، بعد ذلك، خراب لا يختلف في شيء عما يدور في ضمير الشاميات عموما فهن يقلن ايضا في تعبير مماثل: ولييي على قامتي! ولكم أن تتخيلوا السياق الذي تنطلق فيه هذه العبارة؛ صبية دمشقية حسناء تسمع جلبة في الحارة فتهرع لمعرفة ما جرى، تمد رأسها من الباب فتفاجئ بجثة أخيها محمولة على الأكتاف بعد مشاركته بتظاهرة ليلية، وفي الحال تصرخ وهي تخرط خديها ـ وليييي على قامتي! مستدعية مفهوم الويل وانهدام الجسد.
أجل، الانهدام موجود هنا وهناك، في سوريا التي كثرت فيها النواعي حتى غدت مثل نافورات دموع تتدفق، في ليبيا التي يستوطنها الموت شرقا وغربا بسبب زعيم الموت الأوحد، في اليمن، في السودان، في فلسطين، في مصر حيث يتقدم خراب النفوس جاعلا من ميدان التحرير رمزا لمجتمع كامل لا يتوقف عن الصراخ ـ يا لهوي، في تونس، وقبل هذه البلدان جميعا، في العراق الخارج من حرب الداخل لحرب بحدبة من الدموع تضخمت حتى كادت تسد عين الشمس، ولنسوة هذه البلد تعبيرات تستدعي السواد والعتمة والعمى والكمد والعزاء دائما وأبدا، فهن يقلن إذا ما سمعن خبرا سيئا ـ سوده بوجهي وعمت عيني، وسوده عليه، وعزا لعزاني فضلا عن: يبووووو التي أظنها تحريفا عن: يا بويه. راقب معي المشهد لتعرف ما أعنيه ؛ هي ذي عراقية مسكينة تقف أمام الطب العدلي ببغداد تندب أبنها، المرأة تأتزر بحبل المصيبة، ثم تترنم بصوت كسير كملامحها ـ شبيت وانجبيت من جاني العلم، ومعنى العبارة أن النيران شبت في روحها ثم أنكبت الباكية على وجهها عندما جاءها العلم أي الخبر السيء.
الخلاصة أيها السادة ؛ نحن العرب نعيش هذه الأيام في ربيع لا يتكرر، ربيع مصري تونسي يمني ليبي عراقي فلسطيني سوري خليجي مغربي جزائري سوداني ـ سوداني، وأنا جد آسف، في الواقع، كوني لا أجيد جميع اللهجات وأن كنت أعرف أن quot; برشا quot; تونسية وهي تعني quot;كتيرquot; بالمصري وquot; وايد quot; بالخليجي وquot; هواي quot; بالعراقي quot; وخيرات الله quot; بالسوري.
نعم، الدماء برشا برشا والضحايا وايد والدموع خيرات الله والصارخات: يا لهوي يملأن الميادين في انتظار ما يسفر عنه الربيع.. وعجبي!