الحلقة الاولى

ليس بعيدا عن البسطية التي عثرت فيها على كتاب quot;الطائفية في العراق.. حقيقة أم وهمquot;، يلاحظ زائر quot;المتنبيquot; بروز مجال جديد لصراع قديم كان خرج إلى العلن كالتنين بعد عام 2003 وبات من أخصب المجالات وأكثرها اغراء للقراء.
إنه التاريخ وتحديدا تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي بكل تعقيداته وسردياته وأبطاله. ويمكن للرواد، بهذا الصدد، ملاحظة الكم الوافر من الكتب الصادرة حديثا داخل العراق وخارجه وأغلبها يحاول إعادة قراءة التاريخ من زوايا نظر مختلفة وقد تكون غير مسبوقة.
المسألة ليست جديدة، في الواقع، فبدأ من التسعينيات بدأت ترد إلى العراق كثير من الكتب الشبيهة سواء كانت مكتوبة بأقلام باحثين أكاديميين أم بأقلام صنّاع الحدث وأبطاله من قادة سياسيين ومؤسسي أحزاب أو ضباط كبار. غير أن الجديد في عراق اليوم هو زوال السلطات الرمزية السابقة بكل تابواتها وانفتاح عشرات دور النشر العربية على المسألة العراقية، وهو ما يعني quot;سقوطاquot; آخر لبعض دور النشر الشهيرة التي احتكرت اطلاع القراء على مثل هذه الكتب وجيرت ذلك لإيديولجيات يحملها أصحابها.
الملاحظ، هنا، أن فسحة التاريخ هذه التي تتوسط شارع المتنبي فتحت باب الصراع على سعته أمام الرواة. ومجال الاقتتال، هذه المرة، هو المرويات الكبرى التي يريد بعضها محو البعض الآخر والحلول محله.
أشهر الباعة الذين يتعاطون هذا النوع من المرويات ربما كان مازن لطيف، وهو شاب دخل معترك السوق منذ التسعينيات وتخصص في ما بات يطلق عليه quot; النوادرquot; وهي كتب يعدونها نادرة أو قليلة الظهور على البسطيات وجزء كبير منها يتعلق بالطوائف والأديان والمذكرات وتاريخ المدن والأحزاب السياسية.
وإذ تطور عمل مازن خلال السنوات الأخيرة وامتدت علاقاته بشكل واسع قرر تأسيس دار نشر متواضعة أطلق عليها quot;ميزوبوتامياquot; وهي اليوم ترفد الشارع بكتب ذات نزعة quot;عراقويةquot; واضحة وتحاول، بطريقة أو بأخرى، ترسيخ هوية وطنية عابرة للهويات الفرعية.
لذلك تجد عند مازن لطيف كتبا عن علي الوردي وأخرى لسليم مطر ودوريات تدور في الفلك نفسه، مثلما تجد عنده كتبا لرشيد الخيون وميثم الجنابي. وآخر ما فعله لطيف، بهذا الصدد، هو إعادة طبع كتاب للراحل محمد مبارك بعنوان quot;محاولة في فهم الشخصية العراقيةquot; وهو كتاب كان صدر عام 1995 ولكنه لم يجد أي صدى آنذاك.

الليبراليون كطرف في صراعات المتنبي ..!!
فضلا عن كتب اليهود العراقيين ومذكراتهم التي تجد أقبالا كبيرا على بسطية مازن لطيف ثمة عناوين تشعرك، لوهلة، أن هناك صراعا خفيا يدور بين الليبراليين والراديكاليين أو بين العلمانيين وأصحاب الخطاب الديني وهو ما تلاحظه عموما في سوق الكتب في هذه الأيام.
حين سألت بعض أصدقائي من باعة الكتب كأحمد محسن نعمة وأحمد العبادي وافقوني الرأي وأكدوا أن مثل هذا الصراع بدأ يحتدم مؤخرا. يقول أحمد محسن: quot;نعم هناك صراع حتى على مستوى الباعة أنفسهم وأتذكر ذات مرة أننا أسسنا تجمعا ثقافيا في شارع المتنبي لكن الماركسيين استولوا عليهquot;!
قال أحمد العبارة الأخيرة وهو يبتسم ثم استدرك شارحا: quot;هناك حقيقة يجب أن تعرفها يا صديقي وهي ان الليبراليين لا يتعبرونك مثقفا إذا ما كنت متدينا. ينظرون إليك باستهانة واحتقار ولا يقبلون حتى النقاش معك quot;.
وأنا أسمع ذلك تطلعت إلى العناوين التي يعرضها أحمد وهمست لنفسي: الخلاف واضح يا صاح. كانت أغلب الكتب ذات طابع ديني أو تاريخي يدور في المنطقة ذاتها التي يرى الليبراليون والعلمانيون أنها مسؤولة بشكل مباشر عن كل مشاكل البلد.
وبما أننا في إطار الحديث عن الليبراليين والعلمانيين والتقدميين فعلى زائر شارع المتنبي الذهاب إلى quot; قلعة الليبرالية quot; في آخر السوق، اقصد تلك المكتبات والبسطيات التي عرفت منذ التسعينيات بوصفها ملاذا لكتب اليساريين والتقدميين والحداثيين.
القلعة المذكورة تقع مقابل مقهى الشابندر وهي تمتد طولا وعرضا وإذ أقول عرضا فإنني أقصد القيصرية التي تضم عددا من المكتبات أشهرها مكتبة quot;كريم حنشquot; التي تكاد تتحول إلى مقهى بسبب حميمية صاحبها، والأخير بائع كتب عصامي ظل يشاهد في الشارع منذ منتصف التسعينيات بوصفه يساريا محبا للتنوير ومفاهيم الحرية. ثم جرب بيع الكتب ليصيب نجاحا ملفتا وليكلل هذا كله في افتتاح مكتبة صغيرة تبدو اليوم عامرة بالمؤلفات ذات الطابع الليبرالي والتقدمي.

عودة إلى التاريخ..الزعيم يعفو
ليس ثمة حدود فاصلة بين جزر شارع المتنبي المتجاورة في بحر الصراعات العراقية فأنت قد تجد في القيصرية المذكورة ما يذكرك بالصراع الطائفي الذي تحدثنا عنه مثلما يمكن أن تجد في فسحة التاريخ ما يذهب بك مباشرة إلى جدل الانفتاح والانغلاق والاعتدال والتطرف.
توقفت عند بسطية أحمد العبادي، وهو بائع كتب مهووس بالتاريخ مثل مازن لطيف ولديه كزميله ولع خاص بمرويات العراق الملكي والجمهوري ومذكرات بناة تلك المرحلة. وكما هو شأن كريم حنش ابتدأت رحلة العبادي مع الكتب منذ منتصف التسعينيات ثم تواصلت طوال السنين اللاحقة وأبرز ما يميز بسطيته ربما هي وفرة الكتب المستنسخة قياسا بالطبعات الأصلية.
قدر تعلق الأمر بفكرة أن يكون شارع المتنبي خارطة مصغرة للصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يشهدها العراق فأن صديقي يرى أن quot;اتجاهات المثقف العراقي كما ألاحظ علمانية، المثقف النخبوي علماني وليبرالي باستثناء قلة يفضلون الكتب القومية والماركسية والدينيةquot;.
ثم يضيف بلهجة تهكمية: quot;لكن هذا لا يعني اختفاء المثقف الايديولوجي بالمرة، إنه لا يزال موجودا ويعيش في القرون الوسطى وأغلب من ينتمي إلى هذا الأنموذج يتجاوزون الستين من العمرquot;.
وأنا أتامل فاكهة الكتب التي عرضها العبادب خطر في ذهني أن أسأل عن الأدب، أين حل به الزمن وسط هذه الصراعات فقال: quot;هناك طلب بسيط على كتب الروايات خصوصا الحديثة ذات النزعة الاجتماعية، أما الشعر فشبه منقرض. لا تزعل، فقصيدة النثر لا تجد من يسأل عنها اليوم. هم يقولون أن سركون بولص شاعر كبير لكن أحدا لم يسألني عنه ولا مرة واحدة بينما أصادف من يسألني عن أحمد مطر ونزار قباني. بل في أيام الدراسة أرى العشرات يسألون عن المعلقات والشعر العباسي والأندلسي، وهذا الأمر مرتبط بالمناهج الدراسية كما تعرفquot;.
حين انتهيت من تأمل البسطية الغنية سألت البائع عن أحدث الكتب التي وصلته فأجاب وهو يتناول كتابا مستنسخا لكنه أنيق وذو غلاف لامع ـ هذا آخر ما وصلني. كان بعنوان quot;أنا والزعيم..مذكرات العقيد محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم quot; وهو من إعداد وتحرير الدكتور ستار جبار الجابري.
قلت له ـ وما الذي سيقال أكثر مما قيل! فأجاب ـ كلا، أذهب إلى آخر الكتاب وستجد وثيقة طريفة كتبها الرفيعي حول قرار قاسم بالعفو عن البعثيين الذين حاولوا اغتياله، سترى حينها كما كان ذلك الزعيم طيبا.
قلبت الصفحات الأخيرة لأطلع على الوثيقة. كانت بخط يد محسن الرفيعي وإليكم نصها:
quot;وبعد صدور الأحكام الخاصة بجماعة محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم من البعثيين وفي أحد الليالي كان الزعيم في غرفة رئيس المرافقين وكنا معه أنا والأستاذ محمد حديد والنائب الضابط عبد اللطيف قاسم شقيق الزعيم وإذا بالزعيم يطرح علينا الثلاثة السؤال التالي: ما هو رأيكم في تخفيض الأحكام الصادرة بحق الذين رموني بالرصاص في شارع الرشيد وكان المجيب الأول شقيقه ن. ض عبد اللطيف اذ قال العفو من شيم الرجال وأن الله أوصى بالرحمة والشفقة وكذا كانت إجابة الأستاذ محمد حديد وأنا، حينئذ تناولت مصحفا وفتح أحد صفحاته فإذا بالآية الكريمة توصي بالعفو والرحمة وفي الحال طلب اضبارات الدعوى وبدء بتخفيض الأحكام.
التوقيع
محسن الرفيعي

وأنا انهي تأمل الوثيقة وأغادر الشارع لم أستطع منه نفسي من التساؤل: هل يمكن تنتهي الصراعات بهذه الطريقة يا ترى..؟؟ لا أقصد صراعات الباعة والقراء في شارع المتنبي بل أعني كل ما يخطر في ذهنك وأنت تتجول في تاريخ العراق الحديث والقديم على حد سواء..
هل نعفو مثل ذلك الزعيم..أم ترانا نظل نتعاطى quot;المحاكماتquot; وننسخها مع كل حقبة ثم نعرضها للقراء في شارع المتنبي؟