محمد غازي الأخرس من بغداد: قبل أكثر من عام كتبت عن مسرحية للمخرج هادي المهدي كان عنوانها كثير الدلالة؛ quot;بروفة في جهنمquot;. كان العمل مذهلا بكل معنى الكلمة واعتمد بناؤه على فكرة البروفات حيث أربعة شبان يتمرنون على مشاهد مسرحية بشكل حر، وفي خضم ذلك يستحضرون بعض ملامح ما يجري في العراق منذ عام 2003.
ما أتذكره عن فلسفة العمل هو الآتي: مخيلة شديدة الرهافة تبحث عن آلية لتحطيم عدد من التابوات المقدسة، الإجتماعية والثقافية والدينية والسياسية. ومتعة العمل كله تكمن في أن هذه التابوات تترجم بطريقة شعبوية بسيطة وعميقة في الوقت نفسه. وهو خلاف ما يجري عادة في المسرح العراقي إذ غالبا ما يرتبط العمق، وهذا خطأ فادح، بالتجريد بكل مظاهره أدائيا وسينوغرافيا وحواريا، ومع هذا لا يجب أن ننسى بعض التجارب الاستثنائية، قاسم محمد، عوني كريم وتلامذتهما من أمثال حيدر منعثر مثلا.
ما ذكرني بـ quot; بروفة في جهنم quot;، في الواقع، ليس فقط مخرجه هادي المهدي الذي اعتقل يوم الجمعة الماضية في منطقة الكرادة بينما كان يتغدى بمطعم هو وبضعة أدباء وفنانين وصحفيين بعد مشاركتهم في تظاهرة quot; ساحة التحريرquot;، ما ذكرني ليس هذا فقط، بل ثمة أشياء أخرى أحاول تأملها الآن، ومن بينها المشهد المتناقض الذي روي لي من أجواء التظاهرة ؛ فعندما توترت الأجواء وبدا أن صدامات ستحدث بين المتظاهرين وقوات الأمن عمد بعض عقلاء المحتجين إلى رفع أفراد من مكافحة الشغب على أكتافهم لتخفيف التوتر، وترافق ذلك مع ارتداء عدد من المثقفين قماشة بيضاء طويلة والوقوف بين الجانبين كحاجز. بعد ذلك، وهذه هي الصورة المناقضة، هوجم المثقفون في المطعم واعتقل اربعة منهم ومن بينهم صاحب quot; بروفة في جهنم quot;، هادي المهدي.
لقد خيل إلي أن بعض مشاهد quot; ساحة التحرير quot; مقتطعة من مسرحيات شاهدناها مرارا وتكرارا. ومن بينها عمل بعنوان quot; حرية المدينة quot; لحيدر منعثر كان عرض في منتدى المسرح في الثمانينيات. في تلك المسرحية استخدم منعثر قماشة بيضاء هائلة أحاط بها المتفرجون وبدت كحاجز بينهم وبين الممثلن. كانت أجواء الحرب العراقية الايرانية تطغى على الأرواح آنذاك لدرجة أنني تخيلت المسرح ملفوفا بكفن مثله مثل قتلانا الممدين في المغتسلات.

صوت المتظاهر..مجرد حلم مثقف خائف..

لم يتوقف حلم المشاركة في تظاهرة سياسية عن طرق مخيلتي منذ المراهقة، ففي عراق الثمانينيات اقتصرت فعالياتنا في العراق على الخروج في مسيرات كهذه التي تنطلق في طرابلس هذه الأيام أو تلك التي شهدتها المنامة وتشهدها صنعاء منذ أسابيع.
المرة الأولى التي تناهت إلي أصوات متظاهرين كأصدقائنا في quot; ساحة التحرير quot; كانت في انتفاضة عام 1991. كنا نسمع أصواتهم تأتي متقطعة من بعض قطاعات مدينة الثورة. لاحقا تعرفت إلى أحد قادتها المجانين، أقصد فلاح علوان الذي صار من قياديي الحزب الشيوعي العمالي. لقد ظل يحمل لي المنشورات الخاصة بتياره إلى منتصف التسعينيات وضمنها صحيفة أسمها quot; راية الشغيلة quot; تسحب على الفوتي كوبي. كنت أخبئ المنشوارت بين الكتب خوفا من غضبة الأهل. وفي الأخير أحرقتها وصارحت صاحبي في نوبة شفافية أنني أحب الحداثة أكثر من منصور حكمت فتركني غير آسف على رفقتي !
مع هذا، ظللت أحلم بالهتاف في تظاهرة، تظاهرة ضد طاغية وليس ضد فساد أداري. وللأسف لم أحظ بهذه ولا تلك !

ظلال quot; ساحة التحريرquot;
لأعد إلى مسرحية هادي المهدي التي شاهدتها قبل أكثر من سنة، فثمة في العمل مشهد لا ينسى يحاول فيه المخرج استلهام الواقع المحلي بطريقة غير معهودة. ويتكون المشهد من سياسيين عراقيين يتحاوران بطريقة إيمائية بينما ظلاهما يتحاوران بطريقة مناقضة، السياسيان يتحدثان، الظلان يصمتان، السياسيان يتعانقان، الظلان يقتتلان، وفي الأخير، يقرر أحد الساسة اطفاء المصباح فيموت الظلان مؤقتا.
لقد قرأت الفكرة ذاتها في تظاهرة quot; ساحة التحريرquot;، فكرة الجسد وظله وتناقض أفعال هذه مع أحوال ذاك، ولا أدل على ذلك من المشهد المتناقض الذي حدثتكم عنه ؛ حمل المتظاهرين، وهم يمثلون الجسد هنا، رجال الأمن على الأكتاف في الساحة توددا لهم بينما الظل يفعل العكس في المطعم حيث حمل رجال الأمن المثقفين إلى الهمرات وهم يضربونهم.
بالمقابل، يتوشح البعض بالقماشة البيضاء ويقفون حائلا بين المتظاهرين المشاغبين وقوات الأمن في حين يتوشح آخرون بأحزمة ناسفة في ظل مشهد آخر. وظل المشهد المقصود يتحرك بعيدا عن ساحة التحرير حيث متظاهرون يحرقون مصفى quot;بيجيquot; وقوات الجيش تقتل متظاهرين في الموصل.
إنها بروفة لما يمكن أن يجري في الأسابيع القادمة. بروفة مرعبة لكنني أظنها ممكنة الحدوث خصوصا أذا ما دحر أصحاب القماشة البيضاء وطوردوا في المطاعم لاعتقالهم.
أجل، ما أن يغيب هؤلاء حتى تنزل الظلال التي تراءت لي إلى المسرح ثم تحرق الساحة كلها بما في ذلك quot; نصب الحرية quot;، تحفة جواد سليم، وحمائم الأخير يبدين على وشك التحليق هذه الأيام في العالم العربي كله..فكيف بالعراق الذي يتبجح بعض مثقفيه أن حمائمه انطلقن بالفعل منذ 2003 وهم اليوم بصدد فك بعض أجنحتها المترهلة!

الأسئلة هي الدخول إلى الجحيم
قلت في البداية أنني لم اشارك في تظاهرة مضادة لأي سلطة في وقت أنني أرغمت على المشاركة في تظاهرات quot; موافقة quot; كثيرة. وأود الآن تأمل الفرق بين النوعين.
علي أن أقول أن التظاهرة الموافقة كهذه التي نراها في طرابلس تحمل دائما وأبدا أجوبة يقينية لا تني السلطات تحشوها في أدمغة الشعوب في حين أن المظاهرات المضادة تحمل دائما وأبدا أسئلة لا تنفك تحيرنا. عبارة quot; نريد أن نعرف quot; ربما تختصر كل شيء، في كل زمان ومكان، في مصر يريدون أن يعرفوا، وفي تونس وليبيا واليمن والبحرين والأردن، الجميع يريدون أن يعرفوا نحن أيضا نريد أن نعرف.
وبمناسبة وصولي لهذه العبارة يجب أن أرفع القبعة عاليا لمثقف عراقي لماح أسس فيquot; الفيس بوك quot; مؤخرا مجموعة عنوانها quot; نريد أن نعرف quot;. وفيها تستطيع الآن العثور على مئات الأسئلة التي أخرجت الشعوب العربية إلى الشوارع. أقصد الباحث والإعلامي سعدون محسن ضمد الذي هدد هو الآخر بسبب إلحاحه في طرح الأسئلة.
في مسرحية هادي المهدي quot; بروفة في جهنمquot; ثمة لعب على هذه الثيمة، ثيمة الأسئلة، فالشبان الأربعة الذين دخلوا الى البروفات كانوا لا يتوقفون عن طرح التساؤلات على العالم وعلى أنفسهم ؛ من نحن؟ لماذا نحن هنا؟ هل هناك عالم آخر فوقنا أو تحتنا؟ لماذا يحكمنا الآخرون؟ كيف يحكمنا المقدس؟ لماذا نخاف منه؟
كانت الأسئلة في المسرحية المذكورة لا تتوقف، ومع هطولها الكثيف كاد بعض النظارة أن يصابوا بالصداع فبعض الأسئلة تذهب الى الله مباشرة وتخاطبه بوقاحة قل نظيرها بينما البعض الآخر تغامر فتطرق باب المقدسات الدينية التاريخية التي تحكمنا هذه الأيام. أما الخلاصة فهي التالية: بدا الشبان وهم يقررون الدخول إلى عمق ذواتهم وكأنهم يقررون ولوج جهنم، ذلك ان طرح بعض لأسئلة يعني فتح أبواب الجحيم أمام طارحيها.
هل هذا ما يجري في العراق يا ترى؟ ربما، فـquot; ساحة التحريرquot; تبدو مكانا مناسبا تماما، ليس لطرح الأسئلة حسب، بل لأجراء بروفة في جهنم ذات ملامح عراقية، جهنم يمكن عن طريق الأسئلة، وليس الأجوبة، العثور على الفردوس في قلبها.