عن حسن العلوي ومخيال الخرافة وشبان الفيسبوك

يروي علي الوردي في الجزء الثالث من quot;لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديثquot; ص 267 أنه في عام 1908 وردت من حلب إلى بغداد أول سيارة quot; فخرج أهل بغداد للتفرج عليها وصار بعضهم ينظرون تحتها لكي يكتشفوا الحصان الكامن في بطنها على زعمهم اذ لم يكن من المعقول أن تسير عربة من غير حصان يجرها quot;. ثم يروي أن الوالي جاويد باشا عندما ذهب إلى النجف بسيارته الخاصة في عام 1914 طلب من أحد وجهائها أن يركب فيها لتسير به خارج السور ولكن الوجيه بعد أن نظر إلى السيارة مليا رفض الركوب فيها بحجة أنه صاحب عيال وهو لا يأمن من شرها على نفسه.
تذكرت هذه الحوادث وأنا أتأمل ارتباك بعض شيوخ الخمسينيات وهم يتابعون سحر quot;الفيسبوكquot; وكيف أن هذا العالم الافتراضي صار من القوة بحيث يستطيع أخراج الملايين في ثورات وإسقاط أنظمة حكم لم تستطع الدبابات إسقاطها من عقود.
ثم قلت لنفسي ـ وما المثير للعجب يا صاح وهؤلاء الشيوخ لا يختلفون في شيء عن الوجيه النجفي الذي لم يأمن على نفسه من شر الجني الحديدي؟
طرأ كل هذا في ذهني وأنا أستمع للمؤرخ حسن العلوي، قبل أيام، وهو يزبد ويرعد متهكما من شبان الفيسبوك، أصحاب الجدائل، الذين يضعون المكياج على وجوههم كالمثليين. هو قال ذلك حرفيا في تلفزيون quot;الرأيquot; الذي يملكه مشعان الجبوري وكان بصدد الدفاع عن حكومة بشار الاسد ومعمر القذافي.
العلوي كان شبيها بأولئك فهو لا يتخيل أن يكون لهذا الشيء الافتراضي كل تلك القوة ـ يا فيسبوك.. من يمته الفيسبوك يسوّي انقلاب؟ هكذا كان يتساءل بحيرة ثم ينهي الموضوع بطريقة خمسينية صارخا ـ سوريا ما يهزها الفيسبوك!
قلت له في سري ـ ماذا تقول يا رجل؟ ما الذي دهاك؟ كيف لا تهتز سوريا أمام لحظة الفيسبوك وتلك هي quot;أم الدنياquot; أناخت كجمل مسن وتختخت كأمرأة حبلى جاءها الطلق في القطار ثم صارت فرجة للعالم القريب والبعيد؟ أيعقل أن تقول ذلك وأنت المستشرف المستبصر الذي تنبأت بغزو صدام للكويت؟
ولكي لا تبدو المقالة تهكمية في موضوع خطير كهذا عليّ أن أقول أن حسن العلوي ينتمي لما يمكن تسميته بجيل الاستقلال ومقارعة الاستعمار وquot;أذنابهquot;. وهذا الجيل نشأ في فترة تكون البلدان العربية ونضالها من أجل نيل الاستقلال التام والخلاص من التبعية للأجانب ـ هذه هي مصطلحاتهم ـ، ومن ثم البحث عن هوية ما وإعادة بعثها اعتمادا على خزانة عتيقة من الرموز quot;البراقة quot; وquot;العظيمة quot;.
عليّ التذكير أيضا بفكرة ترددت كثيرا حول مفهوم quot;الخرافة الثقافيةquot; الذي شكل خطاب الأنتلجنسيا العربية منذ الأربعينيات ونجح، في الأخير، في صناعة مثقف خرافي التفكير لا علاقة له بالواقع. والمؤسف أنه على يديّ مثل هذا المثقف كانت شكلت لبلداننا هويات وهمية بدءا من مصر مرورا بسوريا والعراق وفلسطين وليس انتهاء بليبيا وتونس والجزائر والسودان.
أبناء هذا الجيل، في الواقع، كانوا نتاج لحظة تحد طرفاها نحن، العرب، والآخر الذي هو الغرب الامبريالي؛ الغرب يتآمر في الليل ونحن نقاوم في النهار، هو يزرع الخونة في الربيع ونحن نحصدهم في الخريف، هو يأتي من جهة الأطلسي أو الخليج ونحن نسبقه من الغرب أو الشمال. ولمن يريد أن يقهقه ساخرا ليتذكر نشيد طفولتنا وصبانا: طالع لك يا عدوي طالع.. من كل بيت وحارة وشارع !!
أبناء هذا الجيل الخمسيني هم الذين تكفلوا ببناء تلك المنظومة الخرافية المرعوبة من الآخر وهم أنفسهم الذين صاغوا رأسمالنا الرمزي وهذا الأخير صيغ وفصل حسب البلدان ووضعياتها الثقافية والعرقية والاجتماعية. حسن العلوي ـ مثلا ـ يركز في حديثه المذكور على أن سوريا سليلة الدولة الأموية وجيشها هو جيش بني أمية، بل انه في الحديث نفسه يشبه الراحل حافظ الأسد بمعاوية لجهة دهائه وبعد غوره، في حين يشبه صدام بعلي بن أبي طالب لجهة مبدأيته وحسمه وعدم اقتناعه بأنصاف الحلول!!
هذه الهرطقات خمسينية محض وهي تذكر بسيل من الخرافات التي تعمل على ملأ مخيال الشعوب بكل ما هو سقيم وغير عقلاتي ؛ صدام حسين هو صلاح الدين الأيوبي تارة ونبوخذ نصر تارة ثانية، القذافي هو عمر المختار مرة وعبد الناصر مرة أخرى. وبينهما يظهر الاسد بوصفه معاوية وبشار بوصفه عبد الملك ربما !
ولكن بعيدا عن هذا التخريف فأن جيل الخمسينيات، وحسن العلوي أحد أبنائه، نجح في تشكيل بلدان كسوريا والعراق ومصر وليبيا والجزائر وفق الافكار التي آمن بها وأهمها تذويب الجموع في أيديولوجيات شمولية تقسر الجماهير على التوحد في كتلة quot;عظيمةquot;، ثم تتحدث تلك الأيديولوجيات باسم تلك الكتلة دون تفويض، وتفكر بدلا عنها، حتى إذا استلمت السلطة عن طريق القوة شرعت في القيام بواجباتها؛ ترسيخ الهوية الوهمية، إعطائها شكلا ومعنى، ومن ثم حمايتها من الأعداء، أولئك الذين لا شغل لهم سوانا.
ما شأن هذا كله بما قاله حسن العلوي في حديثه؟
إليكم همزة الوصل؛ يقول العلوي أن ما يجري منذ ثورة تونس ما هو إلا هو استهداف تآمري للنظام العربي من أجل إشاعة أنموذج الدولة المعوقة. الدولة التي يراد قطع ذراعيها وسمل عينيها وصب الرصاص في أذنيها كما جرى في النموذج العراقي. وهو يرى أيضا أن النظام العربي على علاته أفضل من quot;اللاهويةquot; التي يراد تعميمها وquot;اللادولةquot; التي يراد إنشاؤها. وأنه شخصيا غير مستعد لاستبدال quot;الأحزاب العظيمةquot; كالحزب الشيوعي وحزب البعث وحزب الاستقلال والوطني الديمقراطي بشيء أسمه quot;الفيسبوكquot; الذي هو quot;الفيس أسرائيلquot; كما قال.
ليس هذا كل شيء فهو يزعم أن شبان الفيسبوك هؤلاء هم مجرد مخانيث quot;خولquot; ولديهم جدائل، بل انه يحرض السوريين عليهم قائلا أن quot; الجيش السوري لن يدع الخونة يعبثون بحلب واللاذقية ودمشقquot;.
ويضيف أن quot;سوريا ظلت تحارب اسرائيل لستين سنة وتصارع المخابرات الأميركية ستين سنةquot;. وأن ما جرى في تونس لم يكن المقصود منه تونس بل ليبيا لأن القذافي quot;عمل مشاريع اسكان عظيمة لا توجد في أغنى البلدانquot;، وأنه quot;قاد أفريقيا بعد عبد الناصرquot; وأنه quot;صنع النهر العظيمquot; وشارك العرب أمواله.. هل هي أمواله حقا!
وفي غضون ذلك يبتلع العلوي عبراته أكثر من مرة وهو يتحدث عن سوريا وحافظ الأسد الذي خصص له منزلا ووظف لحمايته أربعين مسلحا. معتبرا ذلك مبررا قويا للدفاع عن نظامه أمام هجمة تآمرية يقودها شبان تافهون يضعون الماكياج على وجوههم.
إن أول ما يثير الانتباه في هذا الرأي هو طابع الابتسار والتعمية على التناقضات التي يتضمنها وأحيانا طابع التعميم الذي يذكرك فورا بطريقة الخمسينيين التي تميل إلى صنع عالمين متقابلين، شرفاء ـ عملاء، وطنيون ـ خونة، رجال زكرتيه شبيهون بأبو شهاب ـ شبان مخنثون مثل أبو بدر!
شيء لا علاقة له بالعصر ويصلح ليصاغ كمسلسل كـquot;باب الحارةquot; يمتع العرب في شهر رمضان. بل لعل أعجب ما في الرأي هو إضفاء الشخصانية على المشهد واختصاره بموقف الحاكم من قضية ما وإلا فإنني أتساءل: متى كان استقبال اللاجئين من البلدان الأخرى وتقديم الحماية لهم واغراقهم بالمكارم معيارا لتقييم الحكام؟ لو كان الأمر كذلك لأعتبرنا صدام أفضل حاكم في التاريخ فهو أكرم من معن بن زائدة ورماد قدره أكثر من رماد قدر حافظ الأسد بألف مرة، ولا دليل أفضل من إيوائه مجاهدي خلق ومعارضي السادات وكل من هب ودب وصرفه عليهم ما لو وزع ربعه على فقراء العراقيين لصنعوا له تمثالا في قلوبهم.
ولكن أنّى يكون ذلك ومنهج هذه الأنظمة هو نهب ثروات البلدان وشراء ذمم الآخرين بها أو لنقل شراء جيوش المرتزقة في كل المجالات. لا أقصد ما يشاع عن القذافي الذي يستقدم المرتزقة من تشاد والسودان والبلدان الأفريقية الأخرى لقتل أبناء شعبه بل أعني شراء الأصوات وتأجير الحناجر، كل ذلك وفق شعار: quot;رزق الهبل على المجانينquot;.
على أن رؤية حسن العلوي هذه ليست كلها ذات دوافع شخصية رغم أن الدفاع عن القذافي بعد أن قصف شعبه بالطائرات يبدو فضيحة تذكرنا بدفاع بعض الكتاب العرب عن صدام حسين بعد احتلال الكويت.
اقول أن الرؤية ليست ذات دوافع شخصية لأن نظرية استبدال الأمن بالحرية (الفوضى) تبدو اليوم وكأنها الخرافة الثقافية الأكثر رواجا ولكن المستعادة من منظومة جيل الخمسينيات نفسها التي تحدثنا عنها. ففي تلك الفترة، فترة نهوض الدول الباحثة عن ذاتها، روج القوميون لفكرة quot;الطوارئquot; كحل لا غنى عنه لأفشال مؤامرات الأعداء المتربصين بالأمة. الدساتير عطلت والنوافذ أغلقت ثم دوت صافرات الإنذار ولم تتوقف منذ نصف قرن. أمسك الحرس بالبنادق انتظارا للعدو والنتيجة هو غياب تام للحريات والتداول السلمي للسلطة واندحار مهول لمفهوم الدولة بوصفها مؤسسات مستقلة عن السلطة السياسية.
ما أعنيه أن استبدال دولة الأمن والهوية بـquot;لا دولةquot; الحرية أو الفوضى انما هي فكرة مرحّلة من تلك الحقبة، حقبة الخمسينيات التي ينتمي لها حسن العلوي ويدافع عنها.
في حديثه المذكور ـ مثلا ـ لم يتطرق العلوي إلى قصف القذافي المدنيين بالطائرات ولم يشر، رغم صراحته وشجاعته التي غالبا ما ينبه لهما، إلى المسلحين الذين أطلقوا النار على مئات المتظاهرين في درعا.
أنها الطريقة نفسها، بالأحرى، فحين أعرب بعض المثقفين العرب عن تضامنهم مع نظام صدام أثناء احتلاله الكويت كانوا لا يشيرون إلى جرائمه بحق شعبه. بل حتى حين يسألون عن ذلك كانوا يتهربون ويعمون الأمر بطريقة أو بأخرى كأن يقولوا ـ كل الحكام العرب عندهم أخطاء.
إن هذا عائد إلى أن أبناء هذا الجيل quot;الثوريquot; يؤمنون بفكرة رهيبة وهي أن الجماعات المحلية ليست بذات شأن أبدا ويمكن غض البصر عن جثثها إذا ما هُددت quot;الهوياتquot; التي يؤمنون بها. وما يجري في بنغازي واللاذقية ومصراتة ربما لا يختلف في شيء عما جرى في quot;الديره بونquot; يوم أفنى الجيش العراقي أكثر من ستة آلاف أشوري في يومين.
الدولة أولا، هذا الكيان الأسطوري ذو الرأسمال الرمزي الممتد من سوق الحميدية إلى الجامع الأموي ومن المدرسة المستنصرية حتى آثار بابل، أما سوى ذلك فليذهب إلى الجحيم أو إلى quot;حلبجةquot; أو الى quot;مصراتهquot; أو حتى إلى quot;درعاquot;.
الحق أيضا وأيضا أن سوى ذلك، وهذا ما لم يخطر في أذهان كثير من الخمسينيين، هو الحريات والكرامة والمشاركة في السلطة وتداولها سلميا والشعور بالمواطنة الحقة التي يتساوى بها خميس القذافي مع أي فرد ليبي وجمال مبارك مع حسنين وبرعي المنسيين في عمق الصعيد.
هذا ما يريده شبان الفيسبوك بالضبط وليس أي خرافة أخرى تستعاد من خزانة جيل الآباء، هؤلاء الذين أرتبكوا أشد الارتباك وهم يرون الجني الحديدي يتجول في شوارع العالم العربي مهددا نظمها البالية.
وها أن أحدهم يصرخ الآن ـ لك يا فيسبوك..من يمته الفيسبوك يسوّي انقلاب؟؟