محمد غازي الأخرس من بغداد: لا أحد يعرف بالضبط كيف ابتدأت هذه المقهى لكن الجميع يتفق أن سبب ظهورها يعود إلى الزحام الذي تشهده مقهى الشابندر في شارع المتنبي ببغداد، وهو أمر اضطر بعض المثقفين إلى عبور quot;البسطياتquot; القليلة التي تنتصب مقابل المقهى التراثي الشهيرة والذهاب إلى ركن يقع أقصى فسحة مربعة يسميها العراقيون عادة quot;قيصريةquot; حيث تنتشر محلات الكتبيين إلى جانبي فرع لمصرف الرشيد .
تقع quot;القيصريةquot; قبل نهاية شارع المتنبي من جهة سوق السراي وهي لا تختلف عن مئات quot;القيصرياتquot; المنتشرة في شارع الرشيد وتتكون من فضوة تشبه quot;الحوشquot; البغدادي تنتشر حواليها الدكاكين والمكاتب وكلها تقريبا تتعلق بعالم الكتب والمطبوعات باستثناء فرع لمصرف الرشيد يخدم المناطق المنتشرة على جانبي شارع الرشيد .المذكورة مهملة تماما حتى التسعينيات من القرن الماضي، حينها غامر عدد من باعة الكتب بفتح دكاكين لهم يعرضون فيها بضاعتهم. وكالعادة سارع أحد الشغيلة إلى افتتاح quot;جاي خانة quot; صغيرة وفقيرة بأثاثها ومن ثم وضع النادل المتنقل بضعة كراس وكنبات في محاولة لإغراء زبائنه القليلين لارتياد مقهاه.
واستمر الوضع على ما هو عليه حتى تفجير شارع المتنبي عام 2007 ومن ثم تجديده بشكل تبدل معه كل شيء بما في ذلك quot; القيصريةquot; المهملة التي تحولت إلى مقهى فريد يطالها ضوء الشمس وتداعب نسائم الصباح وجوه روادها.

كاتب المقال مع الشاعر والباحث نصير غدير

يقول الشاعر حسين علي يونس الذي يبيع الكتب، منذ سنوات، في مدخل quot; القيصرية quot; أن quot; المقهى الجديد بدأ منذ فترة في منافسة quot; الشابندرquot; بل أنه هذه الأيام يتفوق على المقهى العتيدة لأسباب عديدة. فالمكان مفتوح ويضفي نوعا من الحميمية المفتقدة في الأماكن المغلقة quot;. ويرى يونس أن quot; الشابندر غدت في السنوات الأخيرة أشبه بالسجن فهي متخمة بالرواد أيام الجمع وأنت لا تستطيع أن تحاور جليسك . أما هنا فالمكان حر ورائع وهو يغري بقضاء أطول وقت برفقة الأصدقاءquot; .
رواد quot; القيصرية quot;، كما يسميها الجميع هنا، هم خليط غالبا ما تجده في المقاهي الأدبية التاريخية مثل quot;حسن عجمي quot; وquot;البرلمان quot; وquot;الزهاويquot; وأيضا quot; الشابندر quot; التي ورثت كل تلك الأماكن. وإذ نقول أنهم خليط فإننا نقصد إنهم ينتمون إلى أكثر من شريحة، فهناك أولا الأدباء من شعراء ونقاد وقصاصين وكتاب إلى جانب المشتغلين بالصحافة والإعلام والأساتذة الجامعيين والطلبة. فضلا عن ذلك قد يأتي في بعض الأحيان ساسة وقانونيون وحتى بعض رجال الدين المتنورون من أمثال المفكر أحمد القبانجي.

عدا هؤلاء ثمة حضور لافت لرواد شارع المتنبي البعيدين عن المجالات المذكورة وهؤلاء قد يعدون quot;القيصريةquot; محطة استراحة تنهي جولتهم المتعبة بحثا عن الكتب.

نادل المقهى

هذا ما يراه الشاعر رباح نوري الذي يقول أنه اعتاد المجيء إلى quot;القيصريةquot; ليستريح من تعب التجوال ويضيف أن quot; المكان أفضل مائة مرة من الشابندر، فهنا أجد فسحة للتأمل وهي قريبة من بعض مكتبات أصدقائيquot;، ثم يستدرك quot; أروع ما في هذه القيصرية هو الشمس فأنا أتخيلها تغسل أجساد الجالسين وتداعبهم. أين ذلك من حيطان الشابندر وصخبها الذي يصيبني بالغثيانquot; .
أما نصير غدير، الشاعر والباحث، فيقول وهو يقلب ناظريه في الفسحة التي تحيطها محلات الكتبين أن quot;المكان يذكرني بحلقات الدرس العباسية، ولكن بإطار حديثquot;. ولدى نصير غدير مبررات معقولة لهذه الإحالة فقد حدث أن أنتظم صاحبنا خلال سني التسعينيات طالبا في الحوزة العلمية بمدينة النجف. ولذا أسهب

الشاعر حسين علي يونس

في تبين التشابهات بين طبيعة مقهىquot;القيصريةquot; وبين المدارس التي درس بها تلك الأيام.
ثم يستدرك: quot; طبيعة المكان واسترخاؤه يوحيان لي أنه مكان غير مزيف، أي لم تدخل عليه الحضارة بقوة. ويخيل إلي أن المثقفين ربما يستعيدون من خلاله مفهوم مقهى التخت الشرقي التي تكاد تغيب هذه الأيام وتستبدل بعلب مسورةquot; . ويضيف: quot;المثقفون عموما لديهم نزعة غير واعية، برأيي، للعودة إلى الطبيعة غير المزيفة أو المصنعة، وأظن أن مثل هذه الأماكن تستثير ما أستطيع تسميته بالنزعة النوستاليجية لدى المثقف الشرقي الحساس، وهذا الأخير ميال بشكل واضح إلى كل ما يقربه من الطبيعة ويبعده عن التصنيعquot;.

بدا نصير غدير وهو يتأمل المقهى quot; الطبيعيquot; وكأنه يترجم العبارة الأولى التي قالها لي. لقد قال أنه مسحور بهذا المقهى وقد اعتاد اقتعاد أحدى تخوتها الفقيرة أسبوعيا منذ سنوات.

كان يرتشف قدح الشاي بتلذذ بينما النادل يجلس بتعب فنحن كنا آخر زبائنه في ذلك النهار. ابتسمت للنادل وأخرجت الكاميرا لتصويره، قلت له: ما رأيك يا صديقي بما يقوله نصير؟ فابتسم وقال: هذه هي سوالف المثقفين، لقد تعودت عليها!