قد تبدو الفكرة غريبة بعض الشيء لكن ذلك لا يمنع كونها واقعية وملموسة لدرجة أنك يمكن أن تلحظها من زيارة واحدة لشارع المتنبي في بغداد وهو شارع فولكلوري يختص ببيع الكتب. المقصود، بإختصار، هو أن للشارع خارطة ما قد تعكس صراع الأفكار في العراق، تجاورها، تناقضها وأحيانا تحاورها في ما بينها.
تدخل إلى quot;المتنبيquot; من جهة شارع الرشيد فيصادفك في البداية باعة المجلات الفنية القديمة والحديثة والجرائد الإرشيفية والصور الفوتغرافية القديمة وأنواع من الكتب المنهاجية. وأغلب الظن أن وجود هذه الفسحة في طرف الشارع القريب من quot;الرشيدquot; حتمه نوع الزبائن الذين يرتادونها، فهم ليسوا قراء محترفين وعلاقتهم بالشارع عابرة جدا. بل ان وقوفهم لشراء مجلة أو كتاب في الطريق لا يختلف عن وقوفهم لشراء قدح عصير أو أي شيء آخر.
بعدا ذلك، يمكن أن تسير بضع خطوات متجاوزا الفسحة الأولى لتلاقيك بسطيات الكتب الدينية ذات المنحى الشيعي ومعها كتب الأسطوريات والثقافات الشعبية المرتبطة بهذا الجانب. هذه الفسحة واسعة، في الواقع، وتضم الكثير من البسطيات وتعرض مئات العناوين الفقهية والتاريخية والعقائدية والمناظرات إلى جانب كتب تفسير الأحلام والسحر والتاريخ وأنواع أخرى تهم نمطا واسعا من القراء.
بدأت هذه الفسحة مع بدايات ظهور شارع المتنبي في الثمانينيات من القرن العشرين وكانت حتى عام 2003 عرضة للمراقبة الصارمة من قبل السلطة. ويحتفظ الباعة، هنا، بحكايات شهيرة تروى عن حملات اعتقال لبعضهم ومن ثم محاكمتهم على خلفية ترويج كتب سياسية ودينية ممنوعة آنذاك. ومن هؤلاء الباعة حيدر محمد شاكر المعروف بـquot;حيدر مجلةquot; ورحيم عبيد موسى وسعد خيون وأحمد محسن نعمة الذين اعتقلوا وحوكموا وقضوا في السجن سنوات قبل سقوط نظام صدام حسين.
وحسب ما يروي توفيق التميمي في كتابه الصادر حديثا quot;ذاكرة الرصيفquot; كان اعتقال سعد خيون ـ مثلا ـ على خلفية إمساكه متلبسا ببيع quot;مفاتيح الجنانquot; وهو كتاب أدعية دينية كثير الرواج، والنتيجة أن حكم على خيون مع زميله ضياء خالد كريم بالسجن ثلاث سنوات وفق المادة 208 من قانون العقوبات الخاصة بـquot; السلامة الفكرية quot;.
أما رحيم عبيد موسى فقد اعتقل كما يروي التميمي عام 1997 أثناء عودته من كردستان العراق، وكان بمعيته كتاب quot;الشيعة والدولة القومية في العراقquot; لحسن العلوي وكتاب quot;الأكراد والمسألة العراقيةquot; لسعد البزاز. ويضيف التميمي أن ذلك الشاب اعتقل في الموصل وتعرض للتعذيب لأسابيع عدة قبل أن يتوسط بعض أقربائه ويجدوا له مخرجا.
وفي المرة الثانية دام الاعتقال خمسة وسبعين يوما تخللها ضرب وتعذيب وحجز انفرادي في حين طالت مدة الاعتقال، دون محاكمة، في المرة الثالثة لتصل إلى ستة أشهر والتهمة دائما هي ترويج كتب ممنوعة وجلبها من بلدان quot;معادية quot;.
وهذه التهمة هي نفسها التي وجهت إلى quot;حيدر مجلةquot; وأحمد محسن نعمة الذي يجاور رفاقه الأربعة في تلك الفسحة، فسحة الكتب الشيعية.

.. وللسلفيين حيز أيضا
في شارع المتنبي، وبعيدا عن الحيز الذي وصفناه بأقل من ثلاثين مترا، عرف السلفيون في العراق حيزا شهيرا لتعاطي دورياتهم وكتبهم منذ التسعينيات حيث يمكنك رؤية آثار ابن تيمية وأحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب والألباني إلى جانب صحاح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وكتب العقائد وغير ذلك.
الحال أن الأمر قد يبدو طريفا للغاية، فأغلب باعة الكتب السلفية الذين يعمرون بسطياتهم بتلك الدوريات لا يبدون في تقاطع اجتماعي مع زملائهم من باعة الكتب الشيعية. ولعل هذا عائد إلى أن الطرفين مضطران إلى التعايش في سوق واحد بل التعامل في ما بينهم بشكل يومي أحيانا.
بمعنى أن الصراع الطائفي الذي قد يترجمه وجود الطرفين في شارع واحد يمكن أن يختفي داخل السوق نهائيا ويحل بدلا عنه شكل من أشكال التكامل، فنحن، في الأخير أمام quot;تجارquot; يتعاطون بضاعة مشتركة هي الكتب حتى لو كان بعضهم يحمل quot;رسائلquot; دينية أو مذهبية أو أخلاقية يعون خطورتها.
أثناء تجوالي الأخير في شارع المتنبي سألت أحمد محسن نعمة الذي أعتقل أكثر من ثلاث مرات ودوهم بيته في التسعينيات بحثا عن الكتب المستنسخة quot;الممنوعةquot;، سألته أن كان ثمة صراع طائفي يمكن ملاحظته هذه الأيام في شارع المتنبي، فأجاب أنه لا يلاحظ ذلك، وأضاف: quot;منذ ثلاث سنوات خف الصراع الطائفي كثيرا هنا، لم تعد الكتب التي تحرض على الطائفية مطلوبة كما هو الأمر في الأعوام المحصورة بين 2003 إلى 2007 quot;.
ورأى أنه يلاحظ بدلا عن ذلك رواج كتب دينية معينة ذات طابع حداثوي وقال: quot;الكثيرون يسألون عن كتب علي شريعتي، المفكر الإيراني القريب من الفلسفة الاجتماعية الفرنسية، وهناك من تثيره عناوين معينة يشم منها رائحة الحداثة في التفكير لكنها تتوجه بالنقد إلى الخطاب الديني أو حتى تحاول تشذيبه مما يعلق به من خرافاتquot;.
ما يقوله أحمد محسن قد يكون صحيحا إلى حد كبير، لكن ذلك لا يعني بالضرورة اختفاء الكتب ذات النزعة الطائفية بشكل نهائي. قد لا تكون لها السيادة هذه الأيام كما كانت في أعوام الموت لكنها مع هذا موجودة وتلقى بعض الطلبات من الجمهور وهم بأغلبهم من أنصاف المثقفين الملتفين حول هويات فرعية متصارعة.
أثناء تجوالي في شارع المتنبي ـ مثلا ـ استرعى انتباهي كتاب مثير قاتم اللون عنوانه quot;الطائفية في العراق.. حقيقة أم وهمquot;. تناولته وتمعنت فيه. وإذا به من تأليف محمد محمد الحيدري وقد ثبت عليه أنه من مطبوعات شركة مجموعة quot;العدالةquot; التي لا أدري إن كانت هي نفسها التي تصدر جريدة quot; العدالة quot;.
المهم أن كتاب الحيدري الذي تناولته كان طبعة ثانية صادرة عام 2008 بعد نفاد الطبعة الأولى كما يقول المؤلف: quot;بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب ونفادها انتظرنا ردود الأفعال باعتبار موضوعه الحساس بدرجة عالية جدا كونه يرتبط بالحالة الخطرة التي تمر بالعراق بشكل خاص والمنطقة الإسلامية بشكل عام..quot; ص 5.
الكتاب باين من عنوانه كما يقول المصريون فأنت معه ستجد نفسك وسط اقتتال طائفي عنيف وحرب لا تهدأ تمتد إلى قرن من الزمان هو عمر الدولة العراقية حيث quot;الأنظمة المتعاقبة كانت تمارس الطائفية منذ تاسيس الحكم الوطني في العراق عام 1920 حتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003 quot; ص 13.
لكن هذا لم يكن متن الكتاب الرئيسي، قد تجد هذه الفكرة وتنويعاتها بشكل انموذجي في كتب أخرى شهيرة مثل quot;الشيعة والدولة القومية في العراقquot;، وغيره، إنما ذهب المؤلف، وبجهد واضح، إلى احصاء كل ما جرى في عراق الحرب الطائفية من حوادث شنيعة وتفجيرات واغتيالات واختطافات من وجهة نظر طرف في ذلك الصراع.
وأنت تقلب الكتاب ستجد كل شيء سمعته من وكالات الأنباء ؛ بيانات، أرقام، أسماء ضحايا، أسماء مدن استهدقت وجوامع فجرت، وألخ.
وفي نهاية الكتاب، ثمة 13 ملحقا تضم بعض بيانات هيئة علماء المسلمين quot;المحرضة على الفتنةquot; برأي المؤلف وخطب quot;أبو مصعب الزرقاويquot; التي دعا فيها إلى قتل الشيعة وخطبة شهيرة أخرى كان ألقاها السياسي عدنان الدليمي في تركيا في مؤتمر إسلامي.
الحق أنني اقتنيت الكتاب لأكثر من سبب فعدا أنه يقدم للباحث فرصة ممتازة لقراءة مزاج المرحلة من خلال ما تتركه من مدونات، فإن القيمة الوثائقية هي الأهم برأيي.