ما كان ملفتا منذ حوالي أسبوعين و بعد الإعلان عن خبر مقتل ثلاثة شبان علويين من مدينة حمص والتمثيل بجثثهم هو السياق و الحجم الذي حظي بهما انتشار هذا الخبر وأسلوب انتقاله العاصف في مشهد الثورة السامية من أجل الحرية، هذا الانتشار بدا مبرمجا ومقصودا إلى حد بعيد حيث ساعدت وسائل الإعلام الحكومية السورية والمقربة من النظام السوري على نشره وعرضه في إطار بات معروفا أنه يخدم نزوع السلطة السورية إلى تعزيز استناداتها الاجتماعية الطائفية والعزف على وتر التناقضات الأهلية الكامنة في المجتمع السوري، لذلك ودون التأكد رسميا من ملابسات مقتل الشبان العلويين، صدرت وسائل الأعلام و أدوات النظام الدعائية أن حادث القتل تم على خلفية طائفية، وأن القتلة شباب سنّة من المنخرطين في الاحتجاجات ضد السلطة حيث المستهدف من عملية القتل هذه ووفقا لذلك النوع من التصدير ليس الضحايا الثلاثة بل الطائفة العلوية على الحقيقة. وهكذا هيأت آلة السلطة وإعلامها الأجواء لكي تهاجم المحال التجارية تلك التي يمتلكها سنة من سكان المدينة ويتم نهبها ثم مهاجمة أشخاص سنة تاليا وعبر محدد الهوية الطائفية فقط، لتبدو الأجواء و كأنها مقدمة لحرب طائفية في مدينة حمص لا تبقي و لا تذر.

لكن المسلك العقلاني المسؤول الذي سلكته تنسيقيات الثورة في المدينة،عندما أصدرت بيانا أدانت فيه الجريمة و نفت مسؤوليتها عنها، ساهم في نزع فتيل أزمة حقيقية كانت كفيلة في تشويه مسار الثورة و وجهها السلمي و اللاطائفي، حيث كان من الممكن أن تكون مدينة حمص نقطة لانطلاق حرب طائفية ما فتئ النظام السوري يسعى جاهدا إلى إيصال الوضع السوري إليها. ما هو مؤكد أن النظام السوري كان يعمل على العكس مما تتطلبه أهم الوظائف الاجتماعية للسلطة السياسية في أي مجتمع و المتمثلة في حفظ السلم الأهلي و الاجتماعي، و ذلك بسعيه لإشعال حرب أهلية طائفية يستطيع من خلالها أن يخبئ و يحجب هاجسه الأهم في الدفاع المستميت عن السلطة و لو عبر سياسة الأرض المحروقة، و أن ينهي رهانات الثورة السلمية ضد الاستبداد و أسئلتها حول الحرية و العدالة و الكرامة و الكفاية، هذا العبث بمستقبل المجتمع و بوجود البلاد ليس جديدا على هذا النوع من الأنظمة السياسية، لقد رافق لعبة معظم الأنظمة الديكتاتورية هاجسا يعمل على مقايضة وجودها بوجود مجتمعاتها و دولها، حين تتهدد عوامل وجود هذه الأنظمة على رأس مجتمعاتها، لقد انحاز هذا النوع من الأنظمة دوما لمصالحه و لبقائه في السلطة ولم يرجح لحظة الاختيار كفة الحفاظ على أمن المواطنين و المجتمع و الدولة على كفة وجوده و بقائه على سدة الحكم.

السوريون الذين يعرفون تركيبة النظام الذي يحكمهم وإلى أي مدى يمكن أن تصل وساخته، يدركون تماما أنه من ليس المستبعد أبدا في حادثة الشبان العلويين الثلاثة أن تكون شبيحةخهع النظام أو أجهزة أمنه هي الجهة المتورطة في مقتل هؤلاء الشبان و تشويه جثثهم على النحو الذي وجدت عليه، وليس مستبعدا أيضا أن تكون الشبيحة هي ذات الجهة التي قامت بالاعتداء لاحقا على ما يخص سنة حمص لإكمال الظروف الممهدة لحرب طائفية. للنظام السوري سابق خبرة ليست بعيدة في تأجيج الأوضاع الانتقالية في مجتمع ما و تحويلها إلى حرب أهلية طائفية، هذا السلوك انتهجه النظام السوري بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عندما استغل الاقتتال الطائفي في البلد المجاور بل وغذاه بالسماح لانتحاريين بعبور الحدود السورية العراقية بحجة مقاومة الاحتلال العراقي، في حين أن الهدف الرئيسي كان إبقاء العراق في وضع الاقتتال الطائفي و في وضع غير مستقر لإشغال السوريين بذلك خصوصا الأقليات الدينية من المجتمع السوري، وبل وتخويفهم من مغبة التفكير في التحول صوب واقع سياسي جديد لا يكون هو على رأسه، كانت وسائل الإعلام السورية وأبواقه تروج للسوريين الأخطار الطائفية الكبيرة من مغبة مطالبتهم بأية إصلاحات داخلية أو أي تحول ديمقراطي ممكن. نجح النظام السوري إلى حد كبير في العراق، وجاءت العمليات الإرهابية ضد الأقلية المسيحية في العراق و ما نتج عنها من اغتيالات وتفجيرات كنائس وتهجير وعمليات اختطاف وابتزاز لتبرر هذا التخوف و ترسخه في وعي و فهم و مخيال السوريين. الحكومة السورية و بدلا من أن تعمل على إرساء مجتمع حديث ينعم بحيثيات المواطنة و العدالة الاجتماعية في بلدها، كرست كل ما ينافي ذلك و عملت ضد التنوير في كافة الاتجاهات، فقط من أجل تحقيق أهداف تكرس سيطرتها على الناس وتخيفهم من بعضهم البعض.

لكن الشعب السوري الذي أثبت حتى الآن قدرته على تجنب النزاع الطائفي رغم كل القتل الذي يتعرض له و كل الوسائل القذرة التي تريد عبرها عصابة النظام تفجير التناقض الذي تراكم طوال عقود من سيطرتها على البلاد يعرف هدفه جيدا، هدف الشعب السوري الأول و الأساسي هو القضاء على الاستبداد و الفساد و النهب و المافيوية التي وسمت شكل إدارة النظام للبلاد طوال أكثر من 41 عاما.

لذلك سينتصر السوريون رغما عن سعي النظام لتأجيج المشاعر الطائفية و رغما عن عمليات القتل الوحشي في حماه و في دير الزور و في ادلب و رغما عن الإرهاب الذي يصبه في حياة المجتمع السوري و الذي وصل إلى مستويات خيالية. السوريون يصنعون تاريخا مشرفا للإنسان في هذا العالم و ليس لهم فقط، فهم بمقاومتهم الأسطورية السلمية لعصابات مجرمة عنفية في ظروف محلية و إقليمية و دولية بالغة التعقيد.يقدمون للعالم نموذجا فريدا عن ثورة شعب و صموده و نجاحه في تحقيق اهدافه رغم كل الظروف التي قد تحول دون ذلك.


كاتب وناشط قيادي في حزب الحداثة والديمقراطية لسورية