تعتقد بعض التيارات الدينية الأصولية أن المكون الديني أو المعتقد يجب أن يكون الأول بل والأوحد في مكونات الهوية بالمعنى العام وبحيث يختزل كل القيم الأخرى المكونة للهوية مثل الوطن والعرق والثقافة، وغيرها من القيم الإنسانية والحضارية. هذا الاعتقاد الخاطئ كما سنرى بطريقة علمية هو الذي وصل بالعالم العربي إلى فضاء الجهل والتخلف الذي يعيش فيه. وما لم تحل مشكلة الهوية وتتحرر القيم الأخرى المكونة للهوية من سيطرة البعد الديني سوف يظل العالم العربي متخلفا عن ركب الحضارة أو واقفاً في مكانه متفرجا على الركب الحضاري العالمي كيف يسير نحو حياة أفضل بينما هو ثابتا لا يتحرك أو ربما يتحرك في المكان وكأن الزمن قد توقف.

هذا، وقد بات من الملاحظ الآن بوضوح بعد الثورات العربية المتلاحقة أن مشكلة الهوية تعد أخطر مشكلة تواجه العالم الإسلامي في الوقت الراهن ولذلك وجب علينا أن نوضح الحلول العلمية لهذه المشكلة. حيث أن حل هذه الإشكالية سيفسح الطريق ويرفع العقبات التي تعترض حركة التيار الثوري الحقيقي ليصل إلى الأهداف التي أعلنها منذ اللحظة الأولى والمتمثلة في الوصول للدولة المدنية.

في الحقيقة أن مصطلح الهوية و بالإنجليزية Identity هو مصطلح مركب يتكون من عدد من القيم والصفات والخصائص المميزة للإنسان الفرد أو المجتمع أو الدولة. هذه القيم المكونة لمصطلح الهوية يكافئ في علم الرياضيات تعبير القيم المميزة (eigenvalues) كيف نفهم هذا الكلام الخطير؟؟

علينا أولاً أن ٌنعًرِف الفرق بين القيمة الجبرية (algebraic values) والقيمة المميزة (eigen values). فالقيمة الجبرية هي مقياس للأشياء المادية أما القيمة المميزة فهي مقياس للأمور المعنوية. فبالنسبة للإنسان على سبيل المثال نجد أن القيم الجبرية تمثل له بعض القيم مثل الكتلة، الطول، الحجم، وغيرها.. فكل إنسان له كتلة تقاس بالكيلو جرامات، وله طول يقاس بالأمتار، وله حجم يقاس بالمتر المكعب، وهكذا. مثل هذه القيم تسمى رياضيا قيماً جبريا.
أيضا فلكل إنسان مجموعة من القيم الإنسانية والأخلاقية التي تميزه عن غيره من الكائنات الأخرى وتفرق بينه وبين إنسان آخر وهي تختلف في الخواص والطبيعة عن القيم الجبرية فمن أمثلة القيم المميزة للإنسان قيم الثقافة، اللغة، الجنسية، العقيدة، وغيرها. ويمكن لعدد القيم المميزة المكون للهوية أن يزداد وذلك بزيادة الوعي والإدراك والتفكير الحر ويقل في الحالة العكسية.

في علم الرياضيات نجد أن الخطورة كامنة في حالة ما تكون مصفوفة (matrix) الوعي الإنساني مكونة من عنصر واحد فقط (الهوية الدنية فقط على سبيل المثال) في هذه الحالة يكون للمصفوفة قيمة مميزة وحيدة وتكون هي نفسها القيمة الجبرية (بحساب محددة المصفوفة) ما يعني تساوي المعنوي مع المادي وتساوي الذي يرى مع ما لا يرى وتساوي المادي مع الروحي، وتساوي العلمي مع الإيماني، وتساوي الواقعي مع الغيبي وهكذا.. في هذه الحالة لا نستطيع أن نفرق بين ما هو مادي وما هو روحي، بين ما هو أرضي وما هو سماوي، بين المقدس والغير مقدس.. فقد تشابهت بل وتساوت القيمتان معا القيم الجبرية المادية مع القيم المميزة المعنوية وهذا هو سر أسرار تخلف العالم العربي.

لذلك وجب على عقلاء الأمة أن يبينوا للناس أن الهوية لا يمكن اختزالها في بعد واحد فقط هو البعد الديني حتى لا تضيع الهوية بكل أبعادها الثقافية ومكوناتها الأخرى بما فيها البعد الديني.. فالهوية يجب أن تحفظ مكوناتها الطبيعية للأمة كل الأديان، كل الثقافات، كل الأعراق، كل اللغات وغيرها من المكونات والتي تزداد وتنقص اعتمادا على خصوصية كل دولة وتركيبة كل مجتمع.
ولنتذكر كيف أن السوفيت إبان الاتحاد السوفيتي السابق عندما أرادوا أن يطمسوا كل مكونات الهوية للإنسان المواطن آنذاك لتختزل في الهوية السوفيتية الشيوعية فلا يقول احدهم أنا أوكراني أو ارمني أو روسي وإنما سوفيتي، ولا يقل أحدهم أنا مسلم أو مسيحي وإنما سوفيتي، ولا يقل احدهم أنا ليبرالي أو اشتراكي أو علماني أو.. وإنما سوفيتي كانت النتيجة أن سقط الاتحاد السوفيتي وسقطت نظرياته ولم تجد لها من يحميها أو يدافع عنها لأن التاريخ هو الذي انتصر عليها ولا تستطيع قوة مهما علت أن تتحدى التاريخ أو تزيفه مهما طال الوقت حتى ولو بعد سبعين عاما... نعم سقطت الدولة السوفيتية كما سقطت من قبلها وبعدها كل الدول الدينية وبقيت الأوطان حرة..الروسية، والأوكرانية، والأرمينية، والكازاخستانية وبقيت الأديان وبقيت اللا أديان.. بقيت اللغات، وبقيت الثقافات كل الثقافات بينما ماتت الهوية السوفيتية تماما وأصبحت ماضي.

كيف بعد كل هذا لا يتعلم العرب من التاريخ؟ كيف بعد كل هذا تسأل إنسان عن انتماءه الحزبي أو السياسي فيجيبك أنا مسلم! تسأله عن جنسيته فيجيبك أنا مسلم.هل هذا معقول؟ أم أنهم لا يعلمون؟ أيها الرفاق إذا ما اختزلت مكونات الهوية الإنسانية في البعد الديني فقط نجدها وقد انتحرت ذاتيا.. فقد فسد الدين وضاعت الأوطان وتبعثرت الثقافات.. فهل حان الوقت لنأخذ بالعلم والتاريخ لحل مشكلاتنا عسى أن نقوم بين الأمم قبل فوات الأوان.. التحيات للجميع.
[email protected]