في احدى الدول الاوربية ndash; وكما قرأت في مجلة قديمة ndash; توجد مقهى يعامل الداخل إليها كما يدعي، بمعنى انه اذا ما قال انني امبراطور الصين العظيم سارع العاملون فيها الى معاملته وكأنه ذلك الامبراطور الصيني الذي يغدق على رعاياه العطايا، وتُهاب سطوته، فمشوا خلفه وامامه حافين به ومهللين بقدومه.

فليحة حسن

واذا ما جاء (زبون) آخر مدّعياً انه شكسبير انتدب( نادل ) آخر نفسه وتحدث معه عن (عطيل) وعن (الليلة الثانية عشر أو ماتشاء)، فيرى ذلك المدعي أن لا شكسبير غيره ابداً،
وبهذا صار ذلك المقهى يلبي حاجات رواده النفسية عن طريق تعزيز كذبة - وأن كانت جميلة - من جهة، ويستدر أموالهم بتقديمه لهم كلّ مايطلبون من انواع الشراب وبأسعار أعلى من أسعار بقية المقاهي من جهة آخرى، إذ يضاف الى القائمة ndash; طبعاً- بدل الخدمة المقدمة.

ويبدو إن الحال هذه قد امتدتْ الى المواقع التي تنسب نفسها الى الثقافة فما ان يتقدم اليها احدهم ويقوم بنشر شيء ما لايمت للأدب بصلة لا من قريب ولا من بعيد، حتى تنزّ على واجهة الصفحة المنشور فيها ذلك الشيء تعليقات تبدأ أو تذيل بألقاب تستدعي الضحك تماشياً مع المثل العربي القديم القائل ( شر البلية ما يُضحك ).
فألقاب من مثل ( امام الشعراء، حجة الادباء، ومحج الكتّاب، والشاعر الفطحل، والشاعر الكوني، والشاعر الكبير الكبيرالكبير، الشاعر الجبل، الشاعر المدهش،الشاعر الفريد، )
تتزّ من صفحات تُنشر عليها كتابات لم تبلغ من الشعرأيما مرتبة.

والملاحظ ايضاً ان الناشرين في هذه المواقع يتبادلون تلك الالقاب بمجانية كبيرة، فما أن يكتب احدهم تعليقاً على شيء ويغدق على كاتبه لقب الشاعر الكبير ( فلان الفلاني) مثلاً
حتى نرى الآخر يجيبه بتعليق آخر يفتتحه بالشاعر الأكبر، و كأن الامر يقع تحت باب( ردّ التحية بأحسن منها).
ولم يعد الامر متعلقاً بتذوق شعري يركن الى العقل والعاطفة معاً أوأحدهما في الاقل، لأن غالبية الاشخاص الذين يلقبون بهذه الالقاب الرنانة الطنانة تفتقر كتاباتهم الى ما يفهم بالعقل فيتقبله أو ماتقدم عليه النفس فتتأمله.

هذا أمر.

والأمر الآخر إننا في زمن لايتحمل إطلاق الألقاب فلسنا في عصر أحمد شوقي حين لُقب بأمير الشعراء فردَّ عليه الشاعر الزهاوي متأثرأ:
( قالوا لشاعر مصر دار الامارة تبنى فقلتُ يا اهل مصر منكم امير ومنّا).

وليس الشعر إمارة، ولا لقب، بل هو خلق آخر يجعلك تعشق حتى موتكَ وتراه جميلاً، أجل هو نافذة فرح وحيدة مخبئة لك وحدكَ كيما تتنفس، هي عوالم ُخلقتْ بألوان زاهية لن يعرفها إلا من لايريد أن يصحو من طفولته ابداً لانه ببساطة شاعر.
غير ان الشاعر- مهما كانت عبقريته ndash; لا يمكنه ان يحافظ على نسق واحد من الإبداع طيلة حياته، فقد يضعف وقد ينتهي في مرحلة من مراحل الزمن والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة بتعدد الشّعراء وأختلاف أزمانهم.

لكن النص أو القصيدة هي وحدها تحتفظ بسمة الأهمية، هي وحدها التي يجب ان نقول عنها وبحق واصفين ( قصيدة مهمة ) أو( نص كبير ).
فالاجيال قد تحتفظ بنص واحد لشاعر على مدى الدهور وتقادمها وإلا مثلاً لماذا عَلُقتْ في ذهن المتلقي - الخاص والعادي- من ديوان عنترة العبسي (معلقته) والتي مطلعها :
( هل غادر الشّعراء من متردّم أم هل عرفت الدّار بعد توهّم) دوناً عن بقية اشعاره؟
هل لانه ُلقب بفارس الشعراء وشاعر الفرسان؟!
أبداً والجواب أصلاً يكمن في إن قصيدته هذه - ببساطة - قصيدة كبيرة ومهمة خلّدت شاعرها وسحبته عن دائرة التهميش والنسيان وأبقته الى الان متربعاًعلى قمة الشعر.
اذن نحن لسنا بحاجة الى الالقاب كيما نبني لنا متذوقاً متابعاً يتحرى القصائد واجداً فيها مبتغاه، بل بحاجة الى كتابة نص يسحب ذلك المتلقي ويهديه الى ماهو منشود من جمال.