لم يعد الموقف التركي القلق جداً من الأزمة السورية خافياً على أحد، في كونه موقفاً زئبقياً بإمتياز، تضرب به ضربة على الحافر حيناً، وضربة على المسمار أحياناً أخرى. كما لم يعد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في سوريا وما حولها من شوراع عربية وإسلامية مشتعلة، ذلك quot;الطيبquot; الذي طالماً وصف على لسان أهلها، بquot;الخليفةquot; وquot;المخلّصquot; وquot;المنقذquot; للإسلام وشعوبه، كما كان عليه الأمر من قبل.

فأردوغان الآن، المتردد، المتمهّل، والصبور جداً على الأسد ونظامه، ما عاد أردوغان السابق، الذي quot;نفذ صبرهquot; كما كنا نسمع بين حينٍ وآخر، والذي كانت صوره وأعلام بلاده وحزبه، تُرفع جنباً إلى جنب، مع رايات الثورة السورية وصور رموزها وشهدائها.

تركيا التي كانت سبّاقةً من قبل، في المشي أمام أهل الثورة السورية، وإلقاء الدروس الكبيرة عليهم في أكثر من مؤتمرٍ للمعارضة السورية انعقد على أراضيها، اختارت الآن المشي بعكس التيار.

فبعد إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما لموقفه الواضح من النظام السوري، الذي طالب فيه مع حلفائه الأوروبيين الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي، بعد هذا الموقف بساعات، أعلنت تركيا صراحةً بأنها quot;لا تطالب الأسد بالتنحيquot;، ودعت النظام السوري مرةً أخرى إلى وقف أعمال العنف ضد المدنيين، وتنفيذ ما كان قد تقدّم به وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو، إلى الرئيس السوري، خلال زيارته الأخيرة لدمشق في التاسع من الشهر الجاري.

منذ بداية الأزمة السورية، نسمع من تركيا ومسؤوليها الكثير من الكلام الديبلوماسي عن quot;خرائط طريقquot;، لكننا لم نجد منها حتى اللحظة، أيّ فعلٍ حقيقي تجاه النظام السوري، على أرض الواقع، يمكن أن يؤدي بالسوريين إلى الأول من تنفيذها.

ربما يبدو هذا الموقف المتذبذب، واللاواضح، أو الرمادي، على حدّ وصف بعض المعارضين السوريين، غريباً بعض الشيء أو لا مفهوماً، من وجهة نظرهم. لكنه في الحقيقة موقفٌ براغماتي محسوب ومدروس، ينسجم تماماً مع استراتيجية تركيا في المنطقة، لا سيما مع سياسات أردوغان وحزبه، لدى تعاطيه، مع أزمات إقليمية ودولية من هذا النوع.
الأتراك استقلوا quot;القطار المتأخرquot; ذاته، وعبروا عن الموقف المتباطئ نفسه تجاه الأزمة الليبيبة، فكانوا آخر من التحقوا بركب القرار الأممي بشأن نظام القذافي، فما بالك بأزمة مشتعلة على طول أكثر من 850 كم من حدودها، منذ أكثر من خمسة أشهر، كالأزمة السورية.

ثم أنّ سوريا بالنسبة لتركيا ليست ليبيا، كما صرّح مسؤولوها الكبار مراراً. فهي ليست مجرد دولة جارة ضرورية، لإقامة علاقات قوية متبادلة على مستويات عالية فحسب، وإنما لها في سوريا عمق استراتيجي، وداخل quot;عالقquot;، متداخل في الكثير من تفاصيله ومشاكله، مع داخلها الشائك. ربما لهذا السبب وأسباب أخرى متداخلة، تعتبر تركيا ما يجري في الداخل السوري، مشكلةً تركية، بقدر كونها مشكلةً سورية.

أما أكثر ما تخشاه تركيا وتخاف من وقوعه، في الداخل السوري القادم، فهو صعود الأكراد السوريين، الذين يربو تعدادهم عن ال3 ملايين نسمة، وأن تتحوّل قضيتهم quot;الأجنبيةquot;، quot;المكتومةquot;، الشائكة، المأزومة أصلاً، والتي لها امتداد في الجانب الآخر على الحدود داخل تركيا، حيث يقطنها أكثر من 18 مليون كردي(أكثر من 30% من مجموع سكان تركيا)، محرومين من حقوقهم القومية، إلى ورقة سياسة رابحة، للعب بها من قبل أطراف إقليمية وربما دولية، وعلى رأسها إيران جارة تركيا، التي تربطها مع النظام السوري علاقات استراتيجية قوية جداً. فإيران، لن تتنازل بسهولة، عن quot;عمقها الإستراتيجيquot; وعلاقاتها القوية جداً مع سوريا. من هنا نراها تفتي يومياً، في الدين كما في السياسة، بضرورة نصرة quot;سوريا الصديقة المقاومةquot;، في مواجهتها لأعداء الداخل والخارج.

تركيا تخاف من تحوّل سوريا التي ظلت ثابتةً طيلة أكثر من أربعة قرون، في ظلّ حكم آل الأسد الثابت، لأن أيّ تحوّل يطرأ على المشكلة الكردية على حدودها، سيفرض تحوّلاً على الجانب الآخر من الحدود، على مشكلتها الكردية الممتدة، على مساحة ثلاث عشرة ولاية تركية ذات أغلبية كردية. علماً أن بعض الإتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية سيفر 1920 الموقعة بين تركيا العثمانية وقوات الحلفاء، بعد الحرب العالمية الأولى، والتي ألغاها مصطفى كمال أتاتورك في معاهدة لوزان 1923، كانت قد نصت على حقوق الأكراد في تقرير مصيرهم بما فيه الإستقلال(بحسب البندين 62 و63 من القفر الثالثة).

ما يهم تركيا، هو ألاّ تتحوّل سوريا القادمة على التغيير لا محال، إلى quot;عراقٍ ثانٍquot; على حدودها، يتمتع الكرد فيه، إلى جانب أقليات أخرى كالعلويين، بحقوقٍ تؤمن لهم الإدارة الذاتية أو الفيدرالية اللامركزية لمناطقهم.

تركيا تخاف من الجغرافيا السورية المتنوعة والمتعددة، وتخشى من أن تؤول تلك الجغرافيا الواحدة إلى جغرافيات جارة quot;غير مرغوبِ فيهاquot;، تهدد وحدة جغرافيتها القلقة. فما جرى في العراق، بعد 2003، وما سيجري في سوريا ما بعد الأسد، حيث لن يرضى أكرادها بأقلّ من الإدارة الذاتية، كما يقول لسان حالهم، سيشجّع دون أدنى شكّ أكراد تركيا الذين يبلغ تعدادهم حوالي 20 مليون نسمة، للمطالبة بحكم ذاتي موازٍ لحكم أخوانهم، وراء الحدود في الجغرافيات المجاورة، جنوباً.

لم يخطئ الأسد حين قال بأنّ quot;أمن تركيا هو من أمن سورياquot;.
فكلام الأسد، يحمل في طياته أكثر من رسالة سياسية لتركيا، لعلَ أبرزها وأهمها، هي التلويح بالورقة الكردية، التي كانت طيلة عقودٍ مضت، ورقة مشتركة، متفق على التعاطي معها ومعالجتها بين الجانبين، عبر إتفاقيات وتفاهمات أمنية واستخباراتية معروفة.

تركيا، مثلها في ذلك كمثل إسرائيل.
هي، كحليفتها تلك، اعتمدت على نظام الأسد وquot;توّكلتquot; عليه، كquot;جار معتدلٍ جداًquot; لها، ومتعاون معها أمنياً واستخباراتياً وإقتصادياً، ووثقت به، تماماً كثقة إسرائيل به quot;كعدوٍ معتدلquot;.

فمثلما قال إبن خال الأسد رامي مخلوف إن quot;أمن إسرائيل هو من أمن سورياquot;، كذلك قال الأسد أثناء زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، بأن quot;أمن واستقرار تركيا هو من أمن سوريا واستقرارهاquot;.

هذا يعنى أن الفوضى التي يقول الأسد بأنها بديله، سيكون لتركيا منها النصيب الأكبر، من بعده.
أما باب هذه الفوضى فمفتوح على كلّ الإحتمالات. وهذا ما لا تريده تركيا. لا سيما وأنّ أعلامها هذه الأيام يركّز على هذه النقطة كثيراً(ضرورة عدم التدخل)، ويحذّر حكومة العدالة والتنمية، من الدخول في أية مواجهاتٍ عسكرية مباشرة مع النظام في سورية، أو أية حربٍ محتملة ضده.
من هنا نفهم تصريحات المسؤولين الأتراك الذين لا يخفون قلقهم من قادم سوريا quot;المجهولquot;.

ربما هذا هو السبب الأكبر الذي يدفع بتركيا إلى التريّث والتمهل والصبر الذي ما نفذ بعد، مع الأزمة السورية، غير السهلة تركياً، وبالتالي إلى التشبث بquot;وحدة سوريا أرضاً و شعباًquot;، وإعتبار ذلك خطاً تركياً أحمراً ما بعده أحمر. ذلك لأن وحدتها القلقة أصلاً، مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بوحدة سوريا، فأكراد سوريا، أو كما يسمون بأكراد quot;ما تحت الخطquot;(أي الحدود ما بين سوريا وتركيا) هم من quot;أكراد ما فوق الخطquot;(أكراد تركيا) وفيهم، وما يصيب الأكراد السوريين في قيامهم وقعودهم في التاريخ كما في الجغرافيا، من خيرٍ أو شرٍّ، يصيب أخوانهم في الجانب الآخر من quot;الخطquot;.

جلّ ما تخافه تركيا في سوريا، هو أن تتحول مناطق الأكراد على طول حدودها الجنوبية مع تركيا، إلى quot;إقليم كردستان ثانٍquot; يتمتع فيه أكراده، بحقوق مشابهة لأخوانهم في العراق.

تركيا تخاف من تكرار quot;عراق آخرquot; في سوريا، وتخشى من أن يخرج أكرادها في quot;تحت الخطquot;، عليها في الجانب الآخر من الحدود، بquot;إقليم كردي آخرquot;، الأمر الذي قد يمهد الطريق أمام أخوانهم في quot;فوق الخطquot; للعبور إلى إقليم خاصٍّ بهم في الشمال.
فهل سيكرر العراق نفسه، مرةً أخرى، مع تركيا؟


[email protected]