من مجمل التعليقات التي أثارها مقالي السابق يستطيع المرء أن َيفرز المعلقين إلى ثلاث عينات. الأولى عقلانية متفهمة تقرأ بإمعان ولا تحمل السطور ما ليس فيها، بل تكتفي بما فيها من أفكار وطروحات من حق المواطن العراقي، أي مواطن، مناقشتها والموافقة عليها أو رفضها.

هذه الخامة العادلة العاقلة هي ما يحتاجه العراق اليوم أكثر من أي وقت آخر، لتصحيح مسيرته وإعادة عربات قطاره إلى سكة السلامة.
الفئة الثانية هي فئة الشتم المعتاد، بغض النظر عن موضوع المقال أو أفكاره. فمجرد التحرش بإيران أو بأحد وكلائها العراقيين، حتى لو بالوقائع المؤكدة. هذه الفئة جاهزة لشتم أي كاتب يتجرأ فيسب العنب الأسود، وذلك لإرهابه هو شخصيا أولا، ولمنع غيره من أن يتشجع ويخرج عن صمته ويطرق الحديد ويفضح الخراب الذي جره حكامنا الجدد إلى بيوت أهلنا ومدارس أولادهم ومزارعهم ومصانعهم وأسواقهم وأنهارهم كلها. هذا هو الإرهاب بعينه. فليس إرهابيا فقط من يذبح بالسكين أو يقتل بالمفخخات والمتفجرات، ولا من يخطف ويغتال ويسطو على البنوك والشركات والوزارات، ولا من يحتكر تهريب النفط والسلاح والمخدرات، بل هو أيضا من يقوم بذبح الرأي الآخر بماكنة الشتم والذم والقذف ضد أصحابه لإسكاتهم ومنعهم من الكلام.

أما الثالثة فهي شريحة المتعصبين لفكر ٍ قومي أو ديني متزمت. هؤلاء لا يطيقون هضم الديمقراطية ولا يقرون بأية حرية لأي كان مخالف لفكرهم أو ليساساتهم. إنهم يؤمنون بأن من حقهم، وحدهم، صناعة القرار، أي قرار، كبير أو صغير، وفرضه على الناس بقوة الحزب أو المليشيا وبأموال الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية المتعددة. وهذه الشريحة ليست شيعية ولا سنية، لا عربية ولا كردية، لا مسلمة ولا مسيحية، بل هي موجودة هنا وهناك، سواء بسواء. وكأن الوطن وطن حزب واحد أو طائفة واحدة أو دين واحد، والعياذ بالله. هؤلاء تعودوا على نعت من يخالفهم في رأي أو عقيدة بالعمالة والخيانة والتآمر الخارجي. تماما كما قال معمر القذافي عن ملايين الليبيين التي خلعته وجعلته مطاردا مطلوبا للعدالة المحلية والدولية معأ. وكما يقول بشار الأسد اليوم عن الجراثيم السورية الشجاعة التي لا تريد إسقاطه فقط بل إعدامه، وستنتصر، وإن غدا لناظره قريب. فهذا الزمن هو زمن الشعوب التي تموت من أجل حريتها وكرامتها وحق مشاركتها الفاعلة في تقرير مصير وطنها، دون شبيحة ولا كتائب ولا جواسيس مخابرات يأتون مع الفجر حاملين العصي والخناجر لاغتيال الرأي المخالف لرأي الحكومة والرئيس.

موضوع ميناء مبارك الكويتي مسألة تخص حكومة الكويت وشعبها وحدهما دون غيرهما. والكويتيون أدرى بمصالحهم من أي طرف آخر. ولكن موقع الميناء بالقرب من حدودنا يجعل منه قضية مهمة للكويت ولكنها مهمة أيضا للعراق.

وكل ما دعوت إليه هو أن نطوي صفحات العداوة السابقة ونكون متحضرين وأن نحسن قراءة طبيعة العصر الجديد وقيمه ومفاهيمه، ونجلس على طاولة مشتركة لنعطي هذا الميناء ما له وما عليه، بمقاييس المصالح المشتركة وحدها، وليس بمصالح حزب واحد أو طائفة واحدة، ولا بمصالح دولة مجاورة، بروح الأخوة والجيرة والكياسة والذوق والخلق الحسن، بدل قرع طبول حرب نحن غير قادرين عليها ولا راغبين في ألامها وأحزانها التي ذقنا منها كل مرار.

إن فئة ً من المنافقين والمتاجرين بالوطنية المزورة، والمنفذين لأوامر وتعليمات تأتي من وراء الحدود، تقول كلمة حق، بخصوص الميناء الكويتي، وتريد بها الباطل، مع سبق الإصرار والترصد.

لم أقل أبدا إذا ضربتْ الكويت دولتكم (الجماهييرية العظمى) على خدها الأيمن فأديروا لها خدها الأيسر. ولم أقل أن تغضبوا على إيران وهي بريئة لم تجفف أنهاركم ولم تقتل أبناءكم ولم تستعمر مدنكم وقراكم، ولم تقصف منازل مواطنيكم، علنا ودون خوف أولا حياء.
قلت إن دولتكم مهزوزة مفتتة، رئاستها مهانة، ووزاراتها متناحرة، وجيشها جيوش، وشرطتها شُرُطات، وبرلمانها برلمانات. فبأي وجه وبأي منطق وبأي سلاح تهددون وتتوعدون؟

لم أكن خاطئا ولا عميلا ولا مرتشيا ولا خائنا للوطن حين دعوت إلى أن نجنح للسلم ونمارس السياسة بالعقل وليس بالعضلات.
والذي لم أقله في مقالي السابق أقوله اليوم. فلولا الكويت، ولولا دورها في إسقاط نظام القائد الضرورة لكان أبو عدي ما يزال يركب على ظهوركم، ويستبيح دماء أبنائكم ويبعثر أموال دولكتم، ويمنع عليكم السفر والموبايل والستلايت والهمبرغر والهوت دوغ والمحابس المشذرة. ولما قفزتم فجأة من مقاهي لندن وطهران ودمشق والرياض إلى قصور برزان وعدي وقصي وعبد حمود وعزت الدوري وطارق عزيز. ولما أصبحتم رؤساء ووزراء وسفراء. ولما ملكتم الملايين والعمارات في لندن ودبي والقاهرة والسيدة زينب.
فكلوا واشربوا وأنتم ساكتون. واستروا عوراتكم. فليس لكم مجيرٌ من غضب الله والجماهير سوى العدل والعقل والتواضع والكف عن العنجهية الفارغة والوطنية الكاذبة. فهل تعقلون؟