في الموضوع الكويتي يجد الكاتب السياسي العراقي حرجا كبيرا في قول كلمة الحق والعقل والضمير، خوفا من اتهامه بالإرتشاء، كما حدث لعراقيين آخرين كثيرين.
قد تكون الكويت استخدمت أموالها، فعلا، واشترت بعض ذمم سياسيين وكتاب عراقيين لخدمة مواقفها وسياساتها في مشاكلها الدائمة مع العراق، وقد لا تكون إلا أن العتب الأكبر، إذا صدق الاتهام، ليس على الراشي، بل على المرتشي.

مع علمي الأكيد بأن في العراق سياسيين ومثقفين كثيرين شرفاء، لا يُباعون ولا يُشروْن، ثابتين على مبادئهم وأخلاقهم، واثقين من نزاهتهم ونظافة أيديهم وضمائرهم، مخلصين كثيرا لوطنهم وأهلهم، دون خوف ولا رياء، لم يرتزقوا من قبل، ولن يرتزقوا من بعد.

هؤلاء هم الأمل الباقي في الجهر بالحقيقة لنجدة أهلهم وقت الشدة خصوصا وأن كثيرين من الذين يتباكون اليوم على مصالح العراق وكرامته وهيبته من خطر الميناء الكويتي إنما يتسترون بكلمة حق يُراد بها باطل، مع سبق الإصرار والترصد، كأي عبدٍ مأمور ينفذ تعليماتٍ موقوتة تأتيه من وراء الحدود.

وفي ظل التردي الحالي في كل شيء من أحوال العراق اليوم، من رأسه إلى أخمص قدميه، أصبح أكثر ما يحتاجه العراقيون هو قليلٌ من العقل وكثيرٌ من التروي في العنجهية الفارغة والعنفوان الكاذب وخطابات التهديد والوعيد ضد هذه الدولة أو تلك من دول الجوار أو غير الجوار ويعرف القريب والغريب أن الدولة العراقية لم تمر بأسوأ حالاتها إلا على أيام هؤلاء المُجعجعين الشتامين والنصابين والمزورين فلا الرئاسة رئاسة ولا الوزارة وزارة ولا السفارة سفارة ولا حتى المدارس مدارس ولا المساجد مساجد ولا الحسينيات حسينيات بلد بدون كهرباء وبدون ماء وبدون دواء من ثماني سنين، ومليارات دخله تُسرق علنا، عيني عينك، رغم هيئة النزاهة، ورغم بيانات المرجعية التي لم تعد تُخيف.

وأول ما ينبغي التبشير به في العراق والكويت، معا، هو أن نطوي جميع الصفحات السود القديمة، وأن نفتح صفحاتٍ بيضاً جديدة ً بين إخوة وجيران، في عصر ٍ خلع كثيرا من المفاهيم والمقاييس القديمة الفاسدة القائمة على الحقد والضغينة والثأر، وعلى العصبية العنصرية أو الطائفية أو المناطقية، وأنشأ عالما جديدا يقوم على التلاحم والتفاهم والتناغم بين دول كانت إلى الأمس القريب تتقاتل، ثم أدركت أن دفن العداوة السابقة وتبادل المنافع والمصالح أحفظ لأمنها وكرامتها، وأكثر ضمانة لحياة أفضل وأسلم لمواطنيها.

أما النفوس المريضة التي ما زالت تعيش في الماضي البائس التعيس، وتحلم بإعادة رسم خرائط العالم الجديد وفق ما كن قائما قبل عشرات أو مئات السنين، فلم يعد لها مكان، خصوصا وأن تجارب الزمن المُر الطويل أثبتت أن هذه الثقافة الجاهلية المتخلفة لم تجلب لأصحابها، قبل خصومهم، غير الخسائر والهزائم وخراب البيوت.

وفيما يتعلق بالكويت والعراق محزنٌ جدا أن نجد في العراقيين، بعد كل ما ذقناه في الماضي المرير، من يقول بتبعية الفرع للأصل، ووصاية الكبير على الصغير واهمين بأن حجم العراق الأكبر، أرضا وثروة وسكانا، يجعله الأقوى في هذه المعادلة وينسون أو يتناسون أن حجم الدول في عصرنا الجديد لا ُيقاس لا بالمساحة ولا بعدد السكان بل بقوة الجبهة الداخلية أولا، وبقوة الاقتصاد ثانيا، وبقوة العلاقات الدولية الفاعلة واتساعها.

والكويت شئنا أم أبينا، هي الأقوى من عراقنا بمراحل، ودون نقاش فجبهتها الداخلية حديد واقتصادها، نسبة لعدد سكانها، حديد هو الآخر وشبكة علاقاتها الإقليمية والدولية حديد في حديد.

أما نحن، فدولتنا، من أول أيام البعث العظيم وحتى عهد الديمكتاتورية الجديد، فاشلة ومهزوزة وبائسة وفاسدة ومتخلفة، بكل المقاييس وواهمٌ من يظن أن الجبروت العسكري المخيف لدولة صدام حسين كان دليل قوة وصلابة وهيبة أبدا لقد كان دليل خواء وهزال وضلال فالحديد الذي أنفق كل ثرواتنا على شرائه أو تصنيعه تحطم في صحراء الكويت، ثم بيع خردة بعد ذلك وما زال الشعب العراقي يدفع، إلى اليوم، أثمانا باهضة لتلك الحروب الغبية الخاسرة.

ولو أنفق صدام حسين تلك الأموال الهائلة على الصناعة والزراعة والصحة والتعليم، ولو أشبع بها المواطن وأعزه وكفاه وحماه من ذل الفاقة والجهل والهجرة إلى بقاع الدنيا الواسعة بحثا عن عمل أو عن أمان لأحبته الملايين العراقية كلها، ولوقفت معه في محنته، ولأجبرت أمريكا وأب أمريكا على التمهل والعد إلى العشرة والمئة قبل غزو العراق وقتل ولديه وتشريد نسائه وتعليقه في المشنقة.

إن أكبر أخطائه القاتلة أنه مارس السياسة بالعضلات، وليس بالعقل وهذا ما جعل الدولة العراقية كلها، بجيوشها ومؤسساتها، ريشة في مهب ريح، ولقمة سهلة سائغة وطرية لدبابات أمريكا ومليشيات إيران.

وبالحساب الموضوعي الدقيق تعالوا نحسب خسائر الأصل ( العظيم) وأرباح الفرع الصغير، من أيام عبد الكريم قاسم ثم عبد السلام عارف ثم صدام ثم جماعة المالكي والحكيم وعلاوي ومسعود وجلال.

كم خسر العراقيون من دم ومال وصحة وأمن وأمان؟ وكم رجع العراق إلى الوراء، في الاقتصاد والتعليم والزراعة والصناعة، وفي الماء وفي الهواء؟ بالمقابل، كم ربحت الكويت؟ وبكم من الوقت أعادت بناء نفسها من جديد، وحصنت حدودها، وأمنت حمايتها من الطامعين؟
ولولا الكويت وأموالها وشطارة حكامها لما سقط النظام بتلك السرعة الخاطفة ومهما كان رأي العراقيين في صحة الدور الكويتي في الغزو الأمريكي للعراق أو عدم صحته فإن القيادة الكويتية، بالعقل وليس العضلات، فتكت بعدوها الجبار المخيف، وانتقمت منه أفدح الانتقام.

وليس على الكويت حرج إذا ما حاولت أن تكسب مزيدا من الأوراق السياسية والاقتصادية الاستراتيجية التي تحمي أمنها واستقرارها من غدر الزمان ومن عنجهية جارها الكبير والعراقي الذي لا يؤمن بأن العراق الحالي هو الأضعف والأصغر، وأن الكويت هي الأقوى والأكبر، إما واهم أو مزور أو بعثي مريض.

وإذا كان في دولة العراق اليوم سياسيٌ واحد حصيفٌ وطنيٌ مخلصٌ شجاع وغيور وغيرعميل فليقم بدور البطل المنقذ ويعلن على رؤوس الأشهاد أن الكويت دولة شقيقة وجارة وصديقة أقرب إلينا من إيران، وأكثر وداعة وأشد غيرة على حاضرنا ومستقبل أجيالنا القادمة.

وإذا كانت مصلحة الكويت الاقتصادية والسياسية والأمنية تدفعها إلى السعي من أجل إقامة أفضل علاقة ممكنة مع جارها الشمالي، فمصلحة العراق أشد حاجة إلى مثل تلك العلاقة
وبدل قرع طبول الحرب، من حين إلى حين، من قبل بعض المهرجين، وعوضا عن النفخ في نار العداوة النائمة، ينبغي الدعوة إلى جمْع هيئات الدولتين ومؤسساتهما وتكليفها بوضع الدراسات والبرامج والخطط للتكامل والتعاون والتفاهم وتبادل المصالح، بنزاهة وشهامة ووضوح هذا إذا كانت الوطنية العراقية الخالصة ما تزال عامرة في نفوس الخيرين من العراقيين، وقادرة على لجم العنجهية الفارغة، وإسكات الجهلة والمغرضين والمدسوسين، وبالأخص أؤلئك المُكلفين بأداء أدوار مرسومة في طهران

مناسبة هذا الكلام هو هذا الهرج والمرج الذي يدور في العراق اليوم حول ميناء مبارك الجديد، وتهديدات بعض المليشيات التي لا يجهل أحدٌ مصادر أموالها وسلاحها
وأغرب ما في هذا الإطار أن quot;تقريراً صدر من اللجنة الفنية الحكومية التي شكلت في بداية يوليو/تموز الماضي، برئاسة وزير النقل، (رئيس منظمة بدر)، هادي العامري لغرض دراسة المعوقات التي تواجه إنجاز ميناء الفاو الكبير، أكد أن ميناء الفاو لا يتضرر على الإطلاق بإنشاء ميناء مبارك الكبيرquot;
إذن والحالة هذه، أليس من الأنفع لنا نحن العراقيين، قبل أشقائنا الكويتيين، أن نجنح إلى السلم وإلى الذوق والكياسة والسياسة فنجلس معا على طاولة واحدة لنقرر، وفق ما تمليه مصالحنا المشتركة، ما لهذا الميناء وما عليه؟

ثم أليس الأكثر وطنية وعدالة وكرامة، لنا أيضا، أن نثور على الجارة الغاشمة المتكبرة التي جففت أنهارنا، ولوثت ماءنا وهواءنا، وقصفت وما زالت تقصف كل يوم قرانا الآمنة، بدل أن نركب خيول القصب، ونحمل سيوف الحطب، ونندب وننوح، وننفخ في الصور، ونعلن الجهاد المقدس ضد جارة صغيرة لم تتتسلط علينا ولم حتكر حق تعيين الرؤساء والوزراء والسفراء والنواب والمدراء وعمال المجاري، ولم تـُنشيء ولم تمول ولم تدرب ولم تسلح مليشيات مسلحة تقتل وتنهب وتخطف وتحرق وتهدم، كما تشاء؟

أيها العراقيون، جربتم الحقد والعداوة طويلا مع الكويتيين، فلم لا تجربون التواد َّ والتراحم والتفاهم، خصوصا وأن بيننا وبينهم وشائج رحم متصلة عبر السنين تصلح لأن تكون جسور صلاح وعمار؟ فنحن و هُم أقارب، وأعداؤنا يريدون لنا ان نكون عقارب فهل تقبلون؟