وصولي الى أخر معاقل الدكتاتورية بعد عام 2003، المنطقة الخضراء بالذات والقصر الجمهوري وبواباته في بغداد، لم يكن متعذراً بعد أن أصبحتْ في قبضة التحالف ومناضلي كتل المعارضة العراقية. في ذلك الحين كانت أحاسيسي تتنبأ بأن التعايش سلمياً في دولة الطوائف والتحزب والتشدد والتفرقة العنصرية والتعصب الديني سيكون في منتهى الصعوبة والخطورة، فالتعايش بين المذاهب والقوميات توطدت دعائمه في عهد التفرقة الصدامية، وأَسلمتُ لها على أنها مسألة فطرية أنسانية تبناها أهل العراق منذ زمن الأحتلال البريطاني للعراق. الشعب وأِحساسه برقعة الأرض ورائحتها كانت دوماً مصدر حرب لم تنتهِ بعد ولن تنتهي قريباً، وهذه الرقعة الأرضية، على الأغلب، لاتناقش بالحوار السياسي في النظم المتخلفة وأنما تُناقش بقوة السلاح والحوار الحماسي. الحديث الأعتباطي الذي دار مع بعض من ألتقيتُ بهم داخل مكاتب القصر الجمهوري لم يتعدى نقاش الفضول الأجتماعي الى أن تركتُ بغداد المتربة لأمراء الطوائف والتحالف يساورني الكثير من القلق على بعض التوجهات التي رافقت عملية التحرير.

وبعد مرور 8 سنوات، أجد بأنه من العار أن نخشى فتح الأبواب على مصراعيها لِما يسمى بالمنطقة الخضراء.هذه المنطقة كانت وكراً ومعسكراً أنطلقت منه حملات ترهيب شعب العراق وعزله عن العالم الخارجي ومؤشرا رهيباً على العداوة الشعبية للانظمة المقبورة.

كانت بغداد كما قرأنا ورأينا تفيض بسحرها وجمال أبنيتها القديمة التي تأسر الألباب بشواطئها وجسورها ومقاهيها على نهر دجلة. وتزخر quot; منطقة كرادة مريمquot; بالعديد من القصص التي ترجع بعضها الى عهد المنصور وهارون الرشيد وحكايات ألف ليلة وليلة. وقد تطاول على أبواب بغداد وقامتها السكنية وتغيير ملامحها التاريخية، المغول والفرس والأتراك وغزاة الشرق والغرب، ولم تُعطِ الحكومات المتتالية الأهمية التاريخية والحضارية لصيانة معالمها (شارع الرشيد والبتاوين وباب الشيخ والفضل وبغداد الجديدة ومدينة الصدر والشعلة والدورة والعامرية وأحياء عديدة أخرى ).

وليس سراً أن عدة جهات مدنية عراقية ذات أِعتبار، طلبتْ من الصدر تخفيف لهجة التهديد والوعيد بشن حروب داخلية من جديد،أملاً أن يتوجه لدعوة الطبقات الشعبية للبناء والأعمار خاصة مدينة الصدر نفسها.

بادر أحد الأخوة المغتربين من العوائل العراقية العريقة، الدكتورعبد الجبارالعبيدي،وهو من المُحبِّين لرائحة الوطن ورفع سمعته، بادر بأرسال رسالة مسهبة ومحزنة عن حي quot;كرادة مريمquot; التي أطلقت عليه قوات التحالف quot;المنطقة الخضراء The Green Zonequot; بعد سقوط بغداد عام 2003، والتي عنت أساساً للحاكم الأداري المؤقت للعراق بريمر بأنها منطقة آمنة بالتعبير الأمريكي. وتفضلَ د. العبيدي في رسالته مشكوراً الى القول بأن المبدأ الأخلاقي للسلطة العراقية يتطلب منها المبادأة لأظهار أخلاقية الأرادة الوطنية وأدراكها لواجبنا وواجبها الحضاري والتاريخي والأخلاقي، بالعمل على أعادة الحي الى حالته السكنية الطبيعية وتحسين مظهر الأحياء المُدمرة المجاورة، وأزالة النقاط العسكرية والحواجز والمتاريس التي مثلتْ الركود الفكري والقومي والمذهبي ومازرعته أياد أجنبية من تقسيمات مصطنعة للأحياء البغدادية دامت أكثر من 60 عاماً، والعودة ببغداد لترمز من جديد الى الطمأنينة والتأخي والسلام.
فما الذي يمنع من ذلك، ومن سيبادر أولاً؟

يقول الدكتور ع. العبيدي عن تاريخ المنطقة بأنه يرتبط بالسيدة مريم أوغلو التي أُطلق عليها منطقة مريم العذراء تيمناً بالقديسة مريم أُم السيد المسيح. والسيدة أوغلو أمراة تركية كانت زوجة لأحد ولاة الدولة العثمانية الكبار الذي كان شغوفا بالزراعة، فقسّم المنطقة التي تساوي أكثر من 50 دونما الى (كرود)، والكرد هو منطقة زراعية فيها بئر محفور لسقي مزارعها منه. من اشهر مناطقها أم العظام،والبصافي، والمطيرية،والعباسية،والثعالبة. وكان سكنتها من عشائر العبيد والجشعم والجبور وعوائل مسيحية ويهودية متآلفة جدا لم تعرف التباعد بينها أبداً يقع في المنطقة قصرالملك علي بن الحسين شريف مكة و ولده الأمير عبد الآله الوصي على عرش العرق الأمير عبد الآله وهو خال الملك فيصل الثاني الذي قتل في ثورة أنقلابيو 14 تموز عام 1958.( العبيدي).

بدأ تهجير أهالي كرادة مريم بالأكراه وتمَّ استملاك المنطقة كلها بأبخس الأثمان منذ وصول البعثيين الى الحكم عام 1968 وأحتلالهم القصر الجمهوري وأزاحة الرئيس عبد الرحمن عارف. وبمجيء صدام حسين للرئاسة تم أخلاء كرادة مريم وتهجير ساكنيها ليتم أسكان خاصيته وحاشيته وأقربائه والرفاق في القيادة. وتم وضع نقاط تفتيش ومراقبة وأصبحت محظورة على الاهالي دخولها لوقوع مجلس قيادة الثورة والقصر الجمهوري ووزارة الخارجية وبعض السفارات الأجنبية وبيوت أعضاء القيادة القطرية داخلها. فأصبحتْ محصنة في جانب الكرخ من الجسر الجمهوري ووزارة التخطيط الى الجسر المعلق جنوباً.أما قصر الرحاب الملكي الذي يقع غرب المساحة المحددة لمنطقة كرادة مريم فقد جعل منه البعث سجناً رهيباً للمعارضين منذ سنة 1968، وكان من نزلائِه رئيس الوزراء طاهر يحيى التكريتي ومجموعات يسارية من حزب البعث نفسه، أضافة الى شخصيات عربية لها تاريخ نضالي وطني معروف.

كيف يستطيع أنسان قبول العمل الإجرامي لأيدي العابثين في تدمير معالم المدينة التاريخية بغداد وعزل أحيائها وأهاليها بدلاً من صيانتها والحفاظ على تراثها وأعراض الناس فيها وحمايتهم وممتلكاتهم من أيدي وحوش العصر الذين لا يعرفون معاني الحضارة المدنية، ولا لمكانة أهلها من حرمة أو قدسية ؟
أسئلة يُصعب الأجابة عليها من وجهة نظر واحدة. وقد أصابتني الكأبة أبان دخولي القصر الجمهوري لأول مرة بعد سقوط النظام ودخول مكاتب يعلوها التراب، أِلا أن ماقلّلَ من حزني وكأبتي وشعوري بمأساة البلاد هو الأمل بوجود أخوة لنا ممن يهمهم واقع العراق، وقد عزّزَ هذا الأمل ألتقائي بهم و بأخرين في مكاتب مخصصة لوزارات العدل والنفط والاعلام.

والحالة الحالية في أعتقادي، هي حالة شاذة في طريق الزوال القريب أو المؤجل مهما كان تبرير أنظمة الفساد السابقة ونوع الفساد الحالي. وعدم أخذ مبادرة نقل المجمع الحكومي والبرلماني من موضعه الحالي الى منطقة أخرى يُدلل على عدم أهتمام في أعادة تزيين وتشجير وتجميل العاصمة بغداد وأزالة المظاهر العسكرية وتغيّر ملامحها المُغبرة بالمنتزهات والمسابح والملاعب والمسارح وتحسين الشوارع.

أننا أكثر تقبلاً للتأقلم الفكري والعادات والتقاليد والقيم الأجتماعية والخُلقية، وأكثر تقبلاً للتمسك المبدأي بأن quot; رأس الحكمة مخافة اللهquot; مضافاً لها quot; رأس الحكمة مخافة القانون quot; للحد من شريعة الغاب المتأصلة في نفوس بعض الناس، وقد وجدتُ من المناسب انتقاد السلوك العراقي الرسمي الرتيب بألقاء بعض الأضواء والملاحظات النقدية التي تتعلق بأهم التحديات المطروحة أمام الكتل النيابية بالنسبة الى بغداد quot;العاصمة الخضراء المرجوةquot;.

المسؤولية الأعلى هي قدرة وأمكانية أي كتلة برلمانية ذات أحساس ومسؤولية وشجاعة وجدية،على الأخذ بمشروع بغداد الخضراء وأَحياءها المهدمة بأعادة معالمها التاريخية بعد أن أصبحت مخضبة بالدم ومثقلة بآلام الدمار الدكتاتوري والغزو الاجنبي، وأزالة كل الظواهر العسكرية والشبه عسكرية ورفع ماتراكم من الأوساخ والمزابل وتوسيع أطرافها البغدادية بتخطيط وتصميم هندسي ودراسة فنية تتناسب مع تراث وتاريخ المدينة الممتدة من أبو غريب غرباً الى مدينة الصدر شرقاً ومن المدائن جنوباً الى بلد شمالاً كي تعود من جديد عاصمة للسلام والأدب والشعر والفن والحياة الحرة المطمئنة لأهاليها.

ولحد اليوم لم يقدم الأخوة الفرقاء في مجلس النواب أي مشروع قانون يتعلق بأعمار العاصمة وضواحيها مع وجود الرغبة الكاملة الصامتة لدى البعض.

ويبدو أنه من دون الأشارة وتركيز الضغط واللوم على الكتل النيابية quot; وخاصة الدينية الواعدة بالخدمات الأنسانية ومساعدة الفقراء quot;وهي من أولى مهامهم المهملة quot;، يبدو أن سن قانون يتعامل بخدمات العاصمة لمصلحة الشعب هو مشروع لايخطر على البال quot; الآن quot;. وماسبق أن قلناهُ مراراً عن التخدير المذهبي المتعمد وأفتقاد مجموعات من الكتل السياسية للدعوة المخلصة للبناء والأعمار وتعميم السلام، على جانب كبير من الصحة. فألى أن يبدأ العمل الجاد على لجم أصوات تُطلق التهديدات وتدعو للقتال والحروب بدل الأعمار والبناء، فأن ماسيؤل أليه العراق هو جحيم العيش في جهل ومذلة، وتصبح أحلام قادة المجتمع كأحلام العصافير.

والغالبية العراقية المثقفة لاتريد أن تصل بظلمها الى المؤمنين بالله وصلوات بعضهم، بعدما أصبحت الشهادة وquot;حيا على الفلاح وحيا على خير العملquot;، النقيض لِما يمارسونه من سرقات وماخصصوه لأنفسهم من منافع شخصية ووعود برلمانية للطبقات الشعبية، قبل التفكير بخير العمل ووضع تخصيصات مالية الى لجان أمانة العاصمة لتوفير الخدمات الأساسية لعامة الناس. وستبقى معالم العاصمة بغداد وضواحيها مُغبرة ومُتربة ومتروكة على حالها أذا أستمر نقاش من لايتصف بالجدية ويجلس تحت القبة النيابية لفرزالأصوات بمنطق quot; هذا ألي وهذا أِلك quot; وترسخيها في عقول الاخرين وكأنها فلسفية حياتية وخُلقية أجتماعية أبدية. سنُ مشاريع تمُتُ بصلة مباشرة الى كرامة ومصلحة شعب العراق مازالت معلقة وبالأنتظار.


[email protected]