يبدو لي وكأن الكردي مجبولٌ على أن لا ينهض، في وجه أعدائه، إلا بعد أن يتلقّى ضربة، بشرط أن تكون مؤلمة وقاسية، بل وقاصمة، من فأسهم على رأسه. هذا ما يتجلّى لنا عند النظر في نهضاته، وقفاته، التي تأتي دوماً متأخّرة، بعد زمانها الذي كان يُفترض أن تأتي فيه.

وإذا كان هذا يبدو جليّاً جدّاً، في النّهضات، والهبّات، الكردية الغابرة، فإنها كذلك في حاضرها. ولعلّ آخر الأمثلة على هذه الصّحوة الكردية، المتأخّرة، على عادتها، هي التصدّي، الكلامي الشّفهي إلى هذه اللحظة، للهجمات، بل الخروقات والانتهاكات الفظّة، التركية على إقليم جنوب كردستان.

الجيش التّركي الذي يشنّ، منذ أيّام من هذا الشّهر الفضيل، المفترض أن يتوقّف فيه نزيف الدّم وفقاً للعرف التركي!، قصفاً جوّياً مكثّفاً على الإقليم، بحجة محاربة مقاتلي حزب العمال الكردستاني ارتكب الكثير من الانتهاكات السّافرة؛ بدءاً من خرق سيادة الإقليم، مروراً بتدمير العديد من القرى، وإجبار أهلها على النّزوح، وإحراق مساحات واسعة من الأشجار والأحراش، عبر إلقاء قنابل قيل إنها خاصة بهذا الغرض، إلى المجزرة المروّعة التي ارتكبها بحق سبعة مدنيين كرد من عائلة واحدة، أبٌ وأمٌّ وخمسة أطفال، واحدةٌ منهم لم تكن تجاوزت شهرها السادس.

دخول الجيش التركي داخل أراضي الإقليم، هو خرق للاتّفاقات والمواثيق الدولية، باعتباره انتهاكاً لسيادته، التي هي جزء من السيادة العراقية؟. وهذا، بحدّ ذاته، كان كافياً، ومستوجباً، لتحرّكٍ، بغطاءٍ مشروعٍ، موجودٍ سلفاً، وموقفٍ حازمٍ من المسؤولين في الإقليم، لمنع وقوعه. لم يحدث شيءٌ من هذا. وما هو جدير باليقين، أنه لو اتُّخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، لما كان الجيش التركي تمادى وتجرّأ على ارتكاب السّلسلة السّالفة من الانتهاكات والمظالم.

ازدادت ردود الفعل الشّعبية غضباً، وسخطاً، بعيد ارتكاب الجيش التركي جريمته، الشنيعة، بحق المدنيين الكرد الأبرياء، والأضرار البليغة التي ألحقها بقاطني القرى الحدودية.

قيادة الإقليم بدورها، سواءً بإرداتها أو إذعاناً للضغط الجماهيري، المرعب والمخيف هذه الأيام، خرجت عن صمتها، وبشكل لافت جدّاً. فجلمة القرارات التي أصدرها برلمان الإقليم، والتي اتُّفق عليها بالإجماع حسب ما توارد، كانت جريئة، حقّاً، أثلجت صدور قطاع عريض من الشعب الكردي، واستحقّت ثناءه وتقديره. سيما أن هذه القرارات تعدّت المطالب الرّاهنة للجماهير، بإنهاء القصف وتعويض المتضرّرين، إلى ما هو أكبر بكثير، حيث هناك قرارٌ بـ quot;مطالبة الدولة التركية لتقديم اعتذارٍ إلى حكومة وشعب كردستانquot;، وquot;رفع دعوى ضدها إلى محكمة لاهاي الدولية والأمم المتحدةquot;. أكثر من هذا، فقد شملت القرارات قضية كانت قد أصبحت في طيّ النسيان، أو كان يُنظر إليها كأمر واقع، مثل الدعوة إلى quot;إزالة كافة المقرّات العسكرية والمخابراتية لدول الجوار داخل الأراضي العراقيةquot;!.

لكنّ، كلّ ما صدر عن البرلمان إلى هذه اللحظة، هو مجرّد حبر على ورق، حيث لم يُنفّذ أيّ شيء منه. والطيران الحربي التركي واصل هجماته داخل الإقليم، بل إن أحمد داوود أوغلو، ردّ غاضباً على حقّ الإقليم بحماية سيادته ومواطنيه، وأعلن ما يشبه عدم اكتراثهم بكلّ هذا الكلام. هكذا ضرب الأتراك بعرض الحائط العهود والمواثيق الدولية، التي يبدو أنها لم تعد تفيد لكبح جرائم العاملين لدى أصحاب القوّة والقرار، وكذلك خالفوا أعرافهم التي تأنف القتل في الأيام المقدّسة المباركة.

لا شكّ أن إقليم كردستان محاطٌ بأخطارٍ كبيرة، وأعداءٍ كثُر، يتربّصون، ويتحيّنون أقلّ فرصة تُسنح للانقضاض على تجربته الفتية الغضّة. هذا كلام مفروغ منه، ويعلمه القاصي والداني. ولكنه يذكّرنا باسطوانات كلامية، إن جاز التعبير، كثيراً ما ردّدتها بعض الأنظمة العربية، مثل النظام السوري، واتّخذتها حجّة وذريعة لكتم أنفاس شعوبها، وضمان بقائها على كراسيها، حتّى نالت من غضب شعوبها ما نالت، واستحقّت ما لاقت من بئس المصير. ليس منطقياً تحميل قيادة الإقليم ما تنوء بحمله، وما لا تقوى عليه، لكن لا بدّ من تذكيرها أن قوّتها، بعد اليوم تحديداً، حيث أصبح القول الفصل للشعب، هي في مدى قناعة موطنيها بما تقدّمه، ورضاهم عليها، ومدى تحقيقها لمطالبهم، التي لا تنفكّ، في جانبٍ منها، كالإنساني مثلاً، عن مطالب عموم الشعب الكردي، كعدم السّكوت عن إراقة الدّم الكردي، في أيّ مكان كان، وأيّاً يكن القاتل والجلّاد. إذاً، مطلوب من قيادة الإقليم أن تلتف إلى ما يرومه مواطنوها، وأن لا تتّخذ من المخاطر المحدقة بكيانها ذريعة للالتفاف على هذه المطالب، وأن لا تفتح أبواب الإقليم، على وسعها، ليسرح فيه من يريد كيفما اتّفق وشاء.

إذاً، المطلوب الآن هو ترجمة فعلية على الأرض لمجمل القرارات التي أصدرها البرلمان. هذا ليس بالشيء الهيّن البتّة، وتكتنفه صعوبات ومعوّقات كثيرة، ما من أحد بغافل عنها، سيما أن الطرف المعني بتطبيق القرارات معروف بتمرّده وتكبّره وتجبّره. لكن، هذا هو السّبيل الوحيد للاستحواذ على قلوب مواطني الإقليم، وإخماد نيران الغضب التي تتأجّج في دواخلهم على التصرفات التركية الرّعناء. والذي إن لم يحدث قد تسير الأمور نحو نفقٍ مظلم، ليس لأحد قدرة التكهّن بحجم التبعات التي قد تترتّب على اتّخاذها هذا المنحى. يجب أن لا يكون المرام من صدور القرارات امتصاص فورة الغضب هذه، فهذا أسلوب أثبتت تجارب الآخرين، الرّاهنة، عدم نجاعته وانتهاء صلاحيته. بل أن تكون قرارات نابعة من رؤية جديدة للواقع، وقناعة بضرورة تصحيح المسار، ووضع علاقات وسياسات الإقليم على السّكّة الصّحيحة التي تلتقي عليها مصلحة مواطنيه. ولا بدّ من العمل على تسريع تنفيذها، على الأقلّ ما يتعلّق منها بتحرّك قيادة الإقليم، قبل تلقّي ضربات جديدة، قد تكون قاضية، من الفأس التركي.


فايق عمر
[email protected]