في مسرحية ( المحطة ) للأخوين رحباني رمزية عميقة جعلتني أقف مندهشاً أمام هذه الرؤيا المستقبلية الخارقة للعادة التي كان يتمتع بهما هذان الفنانان الكبيران اللذان كانا ينظران إلى ربيع الثورات العربية الحالية بعيني زرقاء اليمامة..

تتلخص أحداث المسرحية بمجيء صبية حالمة إلى قرية وادعة، ينام أهلها على فقرهم، راضين بحالهم، غير عابئين بمستقبلهم، فتدعي الصبية أن هناك سكة للقطار تمر بأراضي القرية، وتعتب الصبية على أهل القرية لأنهم زرعوا المحطة حتى غطى الزرع على سكة القطار فلم يعد يمر بالقرية، وكأن الصبية بهذه الدعوى.. الحلم.. أرادت أن توقظ أهل القرية وتجدد حياتهم وتفتح عيونهم على مستقبل جديد يمكن أن يغير حال القرية إلى ما هو أفضل.

وكما هو متوقع يرفض أهل القرية في البداية تصديق ادعاء الصبية، فهم ولدوا وعاشوا في القرية جيلاً بعد جيل ولا يعلم أحد منهم أن هناك سكة تمر بالقرية، ولم يسمع أحد منهم في يوم من الأيام صافرة القطار في قريتهم، فكيف تأتي هذه الغريبة فتزعم أن في القرية محطة وأن هناك سكة للقطار؟!

لكن الصبية تؤكد لهم صدق دعواها، وتلح في تأكيدها، ومع هذا الإلحاح يبدأ أهل القرية يقلبون الأرض يفتشون عن السكة تحت الزرع، ومع عملية التفتيش يبدأ بعضهم يقتنع بالحكاية شيئاً فشيئاً، وهكذا تتطور الأحداث، ويبدأ حال القرية يتغير، وفجأة تظهر زمرة من الانتهازيين من خارج القرية سمعوا بالحكاية فجاؤوا على عجل يستغلونها كما هي عادتهم quot;في كل مولد لهم قرصquot; كما يقول المثل السوري، وعلى الفور يبدأ هؤلاء الانتهازيون يتاجرون بالحكاية، فيسارع تجار العقارات منهم لشراء الأراضي من الفلاحين البسطاء بأسعار زهيدة، وبعد أن يستولوا على الأراضي يبدؤون بالترويج لحكاية القطار فترتفع أسعار الأراضي إلى حدود جنونية، ويأتي آخرون فيقيمون الفنادق حول المحطة المزعومة ويبدؤون باستقبال الزوار والسواح والفضوليين، ويأتي لص القرية المحترف فيبني له كشكاً ويبدأ ببيع تذاكر القطار المزعوم !

وهكذا تدب الحياة في القرية الوادعة، وينتعش كل شيء فيها، وتتحول ساحاتها إلى أعياد وأفراح وأغنيات ومواعيد، وعندئذ تقع المفاجأة، إذ لا يلبث حلم الصبية أن يصبح حقيقة بعد أن كان وهماً، فتصدح صفارات القطار من بعيد، ويأتي القطار بالفعل، ويبدأ الناس الذين اشتروا التذاكر من اللص بأسعار خيالية يصعدون إلى القطار واحداً بعد الآخر حتى امتلأ القطار عن آخره، وتأتي الصبية.. صانعة الحلم.. لتشتري تذكرة، فيقول لها اللص بائع التذاكر : خلص، انتهوا التذاكر ! وفي تلك اللحظة تنطلق صفارات القطار معلنة انطلاق الرحلة، ويمضي القطار بمن فيه مخلفاً الصبية على الرصيف تشحذ تذكرة ( حدا يعطيني تذكرة.. حدا يعطيني تذكرة ! ) لكنها لا تجد من يعطيها !

بهذه الحكاية.. الحلم.. يصور الأخوان رحباني قبل أكثر من أربعين عاماً من الآن قصة عظماء التاريخ.. صانعي الأحلام.. الذين لا يلبث الانتهازيون واللصوص أن يسرقوا أحلامهم، وها نحن اليوم نعيش واحداً من تلك الأحلام العظيمة في طول الوطن العربي وعرضه، وهاهم الثوار بكل عزم وإصرار وتصميم يصنعون حلم الأمة العربية الكبير بإنجاز محطة جديدة على أمل أن تنطلق الأمة العربية في قطار الحرية إلى مستقبل جديد واعد، لكن أخشى ما أخشاه أن تتحقق نبوءة الأخوين رحباني، فينطلق القطار في النهاية يحمل الانتهازيين واللصوص، فيما يظل الثوار الحقيقيون.. صانعو الأحلام.. على الرصيف، يشحذون تذكرة فلا يجدون!

[email protected]