الطريقة التي طويت بها الصفحة الأخيرة من جبروت معمر القذلفي، بكل ما رافقها من مبكيات ومضحكات، تؤكد حقيقة صارخة ثابتة ينكرها، بعناد وغرور، كثيرون من الأباطرة وأعوانهم وهي أن الظلم مهما دام، ومهما تكبر وتجبر، ومهما قتل وأحرق ودمر، ساقط لا محالة، لأن إرادة الشعوب هي المنتصرة، دائما وأبدا، وعلى مر العصور.
من وقائع الأيام الأولى من عمر الانتفاضة الشعبية الليبية الظافرة برقية طيرها عزت الدوري إلى أخيه المناضل أمين القومية العربية معمر القذافي في مطلع آذار/مارس 2011 يعلن فيها استعداد كتائبه لمعاونة كتائب الأخ العقيد.
قال القائد المجاهد عزة ابراهيم الدوري في برقيته:
quot; نحيي الأخ القائد معمر ألقذافي على موقفه الشجاع ضد التهديد الخارجي لبلده ونقول له ولشعبنا في ليبيا: إن القيادة العليا للجهاد والتحرير قد فتحت باب التطوع للعمل الفدائي في ليبيا إن حصل الغزو الامبريالي لأراضيها، وسنقدم لشعبنا العربي في ليبيا الرجال البواسل المدربين المجربين وبالآلاف، وسنمده بالخبرة التي ركعت جيوش الغزو والعدوان لبلدنا، وسيعلم الغزاة إن تجرأوا على غزو ليبيا أي منقلب ينقلبونquot;.
طبعا، إن هذا الموقف ليس مستغربا ولا مستبعدا أبدا. فعزت الدوري لا يختلف عن معمر، وهذه الكتائب لا تختلف عن تلك. فالكل من طينة واحدة، ومن خامة واحدة، وبنفس العطش الحيواني الأهوج إلى إسالة الدم وشم رائحته والاستمتاع برؤية سيوله المتدفقة. وبما أن جبهة الشعوب كانت وتظل جبهة واحدة فلابد أن تكون جبهة أعداء الشعوب واحدة أيضا، دون ريب.
رغم أننا لا نعتقد بأن هذه العاطفة الجياشة لدى عزت الدوري تجاه الأخ العقيد نابعة من وفاء البعثيين لمبدأ الأخوة في العروبة أو المشاركة في العقيدة. فهم آخر من يمكن تصديق احترامهم لرابطة دم أو قومية أو دين أو طائفة. والشاهد على ذلك حروبهم الدامية الطويلة التي خاضوها ضد رفاقهم في البعث السوري أيام الخلافات السابقة. وجرائم القتل والاغتيال التي نفذوها ضد عملاء وجواسيس الأسد الأب والأسد الإبن معا، في أبو ظبي والكويت وعمان وبيروت والقاهرة ولندن وباريس، تشهد على أصالة الغدر بالأشقاء والأصدقاء والحلفاء في نفسية الرفيق البعثي، صغيرا كان أو كبيرا على السواء.
والأدلة كثيرة على أن حماستهم لدعم القذافي مُزيفة ومفتعلة. فلم يكن بينهم وبين القذافي ألا ما صنع الحداد. ولا يمكن أن تكون (غضبة) الأخ العقيد على إعدام صدام حسين هي سبب هذا الود البعثي الغريب. فهم أعلم من غيرهم بأنه خاطب القادة العرب في مؤتمر قمة سرت قائلا إن (بكره الدور عليكم كلكم)، أي أنه غاضب لنفسه وخائف عليها، وليس مؤمنا بصدام ولا بحزبه الممزق الشريد.
تذكرت رهان عزت الدوري على الحصان القذافي الخاسر وأنا أتابع هذه الأيام أخبار النضال القومي الجديد التي تخوضه كتائب عزت ويونس الأحمد، إلى جانب الرفيق بشار وشبيحته ضد الجراثيم السورية وثورتها الصامدة.
فمن أول ساعات سقوط البعث العراقي في نيسان/أبريل 2003 لم تجد كتائب الحزب الساقط حضنا دافئا يحميها من غضب الزمان والأمريكان، ومن قبضة أحزاب المنطقة الخضراء المتعطشة للثار، أفضل وأكرم وأحن وأرق من حضن البعث السوري الشقيق. وثابت أنه كان عند حسن ظن جميع الرفاق.
لقد فتح لهم أياديه الساخنة. ليس هذا وحسب. بل هيأ لهم المعسكرات ومراكز التدريب والسلاح والمال والفضائيات والإذاعات ومواقع الإنترنيت، ورعى جهادهم في العراق. فقد كان يرسل بهم عبر الحدود لقتل الجموع البريئة من الأطفال والنساء والشيوخ العراقيين في المساجد والحسينيات والكنائس والأسواق والمدارس.
وشهادة رئيس وزرائنا السيد نوري المالكي على ذلك ما زالت تدوي في أسماع العراقيين والسوريين، معا، يوم هاجم البعث السوري، وأعلن أن مخابرات بشار هي التي ترعى الإرهاب وتشرف على عملياته في العراق.
إلى هنا والصورة عادية ومفهومة. بعثي يحتضن بعثيا، وقاتل يستضيف قاتلا مثله. لكن الذي لا يستطيع الشعب العراقي البريء ولا الشعب السوري الجريء أن يفهمه هو الرابط الخفي بين حماسة نوري المالكي وشهامة عزت الدوري في الدفاع عن الرفيق بشار، والمساعدة على ذبح السوريين في الشوارع والملاجيء والمنازل والمساجد والمدارس بالدبابات وسكاكين الشبيحة ومقاتلي حسن نصر الله وأموال الولي الفقيه.
يعني، عزت الدوري ويونس الأحمد يقاتلان مع بشار دفاعا عن الملاذ الآمن الأخير لهما ولأتباعهما. فلو سقط نظام بشار، وهو ساقط لا محالة، فاقرأ على البعث السلام، من اليوم وإلى أبد الآبدين.
لكن ما الذي يجعل نوري الماكي الثائر على البعث العراقي بالأمس يؤيد ويدعم ويساعد البعث السوري اليوم في حربه غير الشريفة وغير الأخلاقية وغير الإنسانية ضد شعب أعزل لم يطلب غير حريته وكرامته؟
ثم أليس هو رئيس وزراء كل العراقيين، فكيف أعطى لنفسه حق التصرف بالوطن العراقي كله دون إذن من أهله الآخرين؟ ومن قال له إن جميع العراقيين يؤيدون قاتلا فقد إنسانيته وتحول إلى وحش لا يشبع من دم؟ وما هي مصلحة الشعب العراقي في معاداة الشعب السوري الشقيق ؟ ولماذا نخرج من جبهة الحرية والخير لنغوص في جبهة الشر، مع بشار ونجاد وحسن نصر الله وروسيا والصين؟
وإذا كانت السياسة هي فن الممكن فما الذي يبقى للسيد المالكي من صفات السياسية والحنكة والشطارة وهو يسبح ضد التيار، ويرفض قراءة التاريخ القريب والبعيد، وينسى أن الشعوب هي الباقية وأن جلاديها هم الراحلون؟ لماذا يرحل إلى الأمس ولا يسافر إلى الغد؟ ولماذا يسير إلى خلف وليس إلى أمام؟
هل من أحد من قرائنا الكرام يستطيع أن يحل هذا اللغز المالكي العجيب؟
التعليقات