من لا يعيش في بغداد لا يعرف قوة وسلطة نوري المالكي في العراق، فهو كرئيس لمجلس الوزراء طوال الكابينة الحالية للحكومة الاتحادية والتشكيلة السابقة تمكن من فرض نفوذه وسطوته وسلطته على مراكز القوة في العاصمة وعلى مفاصل الدولة خاصة منها المالية والعسكرية والامنية والاقتصادية والتجارية، وبحكم ادارته بذكاء ماكر للملفات العراقية الاقليمية على أساس مراعاة مصالح الدول المجاورة تمكن من كسب السند الامريكي والدعم الايراني والود التركي في ظل ظرف لا يمكن ان يتجمع فيه كل هذه التناقضات في المواقف الدولية في المشهد العراقي الا في ظل صفقات سياسية مخفية.

ولا ينكر ان صلابة المركز السياسي للمالكي اتخذت من عدة مصادر قوة لها مرتبطة باعادة تنظيم المؤسسات الامنية والعسكرية والمالية المرتبطة بالحكومة، ويمكن ايجازها بما يلي: السيطرة التامة على مراكز قيادة القوات العسكرية والأمنية والبوليسية والمخابراتية مع ضمان ولاء كامل للمالكي وتشكيل قيادات خاصة مرتبطة به لتنفيذ خططه وأوامره حسب مقتضيات مصلحته، وامتلاك الصلاحيات الكاملة في التصرف بأموال الخزينة العامة والميزانية السنوية وتخصيصات الوزارات والمؤسسات والمحافظات -عدى اقليم كردستان- وصرفها بأوامر مباشرة من المالكي، وتجميد الدور الرقابي للهيئات المستقلة ومؤسسات الرقابة المالية الحكومية لضمان التصرف الكامل بالأموال وفق مقتصيات مصالح رئيس الحكومة ومصالح حزب الدعوة التي تعتبر القوة الرئيسية في تحالف دولة القانون، وتجميد شبه كامل للبرلمان في الرقابة على اعمال الحكومة بسبب قوة مركز رئيس مجلس الوزراء وضعف النواب وانشغالهم بمصالحهم الذاتية، والتلكؤ المتعمد لتنفيذ اتفاقية اربيل المبرمة بين دولة القانون والقائمة العراقية والتحالف الكردستاني لاعادة التوازن الى العلمية السياسية ومنح العراقية ورئيس قائمتها اياد علاوي استحقاقه الانتخابي من خلال رئاسة مجلس وطني للسياسات الاستراتيجية.

مقابل هذا الترسيخ لقوة وانفراد المالكي بالسلطة أظهر الطرف الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني رئيس اقليم كردستان ضغفه الشديد في اداء دوره في العملية السياسية العراقية وافتقاره الى البعد الاستراتيجي لضمان المصالح الكردية في بغداد، ويمكن القول ان البرزاني سقطت منه أوراق القوة التي كان يتمتع به ببغداد في السنوات الماضية، والأسباب في ذلك يعود الى: انشغال الأغلبية من المسؤولين في كردستان بالفساد وجمع الأموال باي طريقة كانت وابتعادهم عن النهج الوطني للحفاظ ورعاية مصالح الشعب الكردستاني في ظل الكيان الفيدرالي، واسناد التمثيل الكردستاني في العاصمة الاتحادية في الحكومة ومجلس النواب والمؤسسات والهيئات والقوات المسلحة الى شخصيات كردية ضعيفة وهزيلة تجري وراء مصالحها ومنافعها الخاصة متسمة بالأنانية المفرطة وعدم الوطنية وبعضها من مسؤولي النظام البائد وتشير تقارير كردية الى ان بعض المسؤولين الكرد في الحكومة وفي الأمانة العامة لمجلس الوزراء تحولوا الى أدوات تسخيرية بيد جماعة المالكي، وعدم توحيد البيت الكردي في الاقليم وتعدد مصادر القرار للتعامل بين حكومة كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد بشأن المسائل والقضايا العالقة بين الطرفين ومنها كركوك والمادة الدستورية 140 والمناطق المتنازع عليها والميزانية والبيشمركة والاحصاء السكاني والنفط والغاز وغيرها من الأمور المصيرية للشعب الكردستاني.

وتوازيا مع تساقط اوراق البرزاني السياسية في بغداد تساقطت أوراق اياد علاوي وقائمته العراقية لضعفه في ادارة الكتلة وافتقاره الى الادراك التام باللعبة السياسية وعدم امتلاكه القدرة على التكتيك السياسي الايجابي لصالح القائمة وموقفه كزعيم أكبر كتلة برلمانية، ويمكن تعليل أسباب سقوط اوراق علاوي بما يلي: تعدد مصادر القرار والقوة الحزبية داخل القائمة العراقية باعتبارها كيان متكون من عدة احزاب سنية لمجابهة الاحزاب الشيعية في العراق الجديد، والفشل الكبير في تشكيل تحالف بين القائمة والطرف الكردستاني بسبب المواقف السلبية لبعض احزاب القائمة تجاه المطالب الكردية، وتعلق نواب رئيس الجمهورية ووزراء القائمة بالامتيازات والمغريات والمنافع المالية التي يوفرها المنصب الحكومي والاستفادة من هذه المواقع لاغراض الكسب المادي مثل الحالة التي كشف فيها عن عقود وهمية بأقل من مليارين دولار كان ينوي تمريرها وزير الكهرباء المحسوب على القائمة.

ازاء هذه الحالة الجارية من تساقط الاوراق السياسية للطرف الكردي بقيادة مسعود البرزاني والقائمة العراقية برئاسة اياد علاوي أمام نوري المالكي جعل من الاخير ان ينفرد بالسلطة في حكم العراق في ظل النظام الديمقراطي الساري، واستغلال المالكي لثغرات العملية الانتخابية سمحت له بأن يتصيد في مياه الديمقراطية ليفرض سيطرته الكاملة على مراكز السلطة في الحكومة وان يجعل من نفسه الرجل الاول في الدولة العراقية المريضة وفي ظل وجود قيادات سياسية عتيقة في ملعب الحكم العراقي.

واستنادا الى الواقع الراهن وما تشهده من مواقف احتجاجية سياسية من قبل البرزاني وعلاوي ضد المالكي لانفراده بالسلطة وتمريره لملفات حساسة للتحكم بها مثل ملف النفط والغاز ومراوحته لاعلان المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية وتأخيره المتعمد لحقائب الوزارات الأمنية، فان شدة الاحتجاجات والمعارضة بدأت تزداد وبدأت المواقف تتجاوز الحدود الدبلوماسية وهذا يشير الى ان العملية السياسية ستشهد توترات ساخنة قد تؤدي الى فك الارتباطات السياسية بين الكتل البرلمانية والاطراف الحزبية، وقد تتجاوز التوترات قدرة جلال الطالباني رئيس الجمهورية الذي تمكن من حلحلة الخلافات بين الاطراف والكتل وعدم تجاوزها للخطوط الحمر لضمان استمرار واستقرار العملية السياسية بهدوء في الفترة الماضية.

ورغم ان الواقع الراهن يتوقع ان تشهد فيه عمليات ارهابية وطائفية بغية تعكير اجواء الوضع السياسي في العراق لاهداف متعلقة بالحالتين السورية والايرانية وبالاجندات الاقليمية، الا ان الموقف السياسي المتوقع اتخاذه لوضع حد لسيطرة وانفراد المالكي بالحكم هو اعلان تحالف بين القائمة العراقية والتحالف الكردستاني لاسقاط الأغلبية البرلمانية التي تتمتع بها التشكيلة الحالية للحكومة برئاسة نوري المالكي، ولكن احتمالات تبني هذا الموقف تعتمد على مدى اتفاق الكرد والسنة على القضايا المصيرية والمسائل العالقة بين بغداد واربيل وهذه المسالة ليست من السهولة توقعها بسبب الخلفيات الايديولوجية والارتباطات الاقليمية لمكونات القائمة العراقية، ولهذا يبقى اتفاق الكرد والشيعة الاحتمال الأرجح مع تعهدات بضمانات جديدة لحل المسائل الخلافية بين السلطة الاتحادية وحكومة الاقليم لرسم المشهد السياسي في المستقبل القريب مع بقاء قائمة علاوي على واقعها المتذبذب، ولكن انفراد المالكي بالسلطة يبقى أمرا متواصلا لا يمكن التقليل من نفوذه الا في الانتخابات البرلمانية المقبلة.

وبهذا الصدد لابد من القول ان كل هذه الحلول التي يلجأ اليها السياسيون لا تخرج العراق من أزماتها السياسية والأمنية والاقتصادية لا في الحاضر ولا في المستقبل، والحل الحكيم هو للخيار الفيدرالي المضمون في الدستور الدائم ولابد للعراقيين ان يقتنعوا ان الحل الجذري هو تشكيل الاقاليم لانها الطريق الوحيد لتوفير الأمن والسلام والاستقرار والحياة الكريمة لكل المواطنين.

كاتب صحفي
[email protected]