الجزء الثاني
الجزء الأول

منذ ستة أشهر والشعب السوري ينزف كل يوم الكثير من الدماء البريئة،فالنظام مصر على أن لا يعترف بعدم شرعيته ( منذ ان استولى حافظ أسد على مقاليد السلطة بلصوصية ثورية قبل أربعين عاماً،ملقياً رفاقه في الحزب في غياهب السجون لعشرات السنين ) وعلى مواجهة إرادة الشعب بالقوة الغاشمة، ولم تعد الدعوة للحوار معه مجدية، فهو قد جعل

حواره مع شعبه بفوهات المدافع، ورصاص الشبيحة! ومع ذلك لم يحقق تقدما في إنقاذ نفسه من مصيره المحتوم،بل نكص إلى الوراء وتعرى، ومات سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً! وفقد طريق عودته إلى الشعب، كيف يتخيل أنه يستطيع حكم الشعب السوري، حتى لو هدأ اليوم، وقد أزهق كل هذا القدر الهائل من أرواح أبنائه، وأسال دماً يملأ وادي بردى من أجساد شبابه وأطفاله ونسائه؟

بنفس الوقت ما يزال خطاب الثورة السورية مشتتاً وموزعا، بين شباب متحمس طامح للتغيير يواجه الرصاص بصدور عارية، في أزقة وحواري معظم المدن،تغطي صدقهم وتضحياتهم العظيمة قنوات فضائية ذات سمعة مستهلكة زائفة، وبين معارضين في الخارج موزعين على مختلف التيارات والاتجاهات، من الدينية والقومية وحتى الماركسية! ورغم إن دمشق وحلب لم تتحركا حتى الآن بالمستوى المطلوب،إلا أن هذا لا يعني أنهما مهطعتان للنظام، فطرابلس في ليبيا لم تفتح أبوابها وقلبها للثوار إلا في ذروة انتصار الثورة!

الكثيرون داخل سوريا، يتطلعون إلى أداء اكثر نضجاً وحيوية للرجال والنساء المعارضين في الخارج لما يتمتعون به من أمان وإمكانات للحركة، ويرون فيهم آمالهم وتطلعاتهم، منتظرين أن يقدموا مقابل الأرواح والدماء المسفوحة في الداخل رؤياهم الواضحة والسليمة لمستقبل سوريا،وأن يتحركوا بديناميكية أقوى لتحقيق المزيد من الدعم والإسناد العربي والعالمي والإنساني، وأن يضحوا هم أيضاً بالكثير من نزعاتهم،ومشاريعهم الخاصة، من أجل مشروع وطني عام للجميع يليق بهذه الثورة التي لم تشهد سوريا والمنطقة مثيلاً لها طيلة تاريخها الحديث، فيقدموا لها رؤية عميقة ناضجة، خاصة وإن مثقفين مرموقين أخذوا يتصدرون طلائعها في الخارج،و لعل أهم ما ينبغي أن يتوخوه هو عدم انزلاق الثورة إلى المطب الطائفي الذي وقع فيه الطائفيون وحلفاؤهم الأمريكان في العراق حين لم يجعلوا هدف التغيير وطنياً، بل طائفياً وعنصريا،فكان هذا الخراب الكبير! لابد من طمأنة العلويين وبشكل قوي وراسخ أنهم غير مستهدفين بهذه الثورة، وطمأنة المسيحيين الخائفين المنكمشين عن الثورة، بأنها لن تنتهي إلى نظام حكم إسلامي يجعلهم من أهل الذمة!

وإذا لم تنضم قطعات كبيرة من الجيش السوري إلى جانب الثوار، أو تتحقق مساعدة عسكرية دولية فعالة كما حصل في ليبيا، فإن من الصعب حسم الصراع لصالح هذه الثورة المشروعة في وقت قريب!

ويبدو أن قادة هذا الحراك الثوري الهائل ما يزالون منقسمين على أنفسهم بشأن المساعدة الدولية، فبينما بعضهم يجعلها مطلباً مركزياً لمظاهراتهم، يرفضها البعض، مبرهناً على موقفه بما حصل من تدهور في أوضاع العراقيين على يد الإدارة الأمريكية السيئة لها! ومع ذلك يبدو حتى الآن من الصعب تكون إجماع دولي حول ذلك!

فقادة الصين وروسيا وقفوا إلى جانب الطغاة،في ليبيا وسوريا وغيرهما،معارضين أية نجدة دولية من الأمم المتحدة للثوار في ليبيا وسوريا،ويكمن وراء هذه النظرة القاصرة والغبية بعض قيم الدكتاتورية، وعنف الدولة، وذهنية القطيع الذي لا يجوز له أن يتحرك إلا بأمر الراعي!التي تربوا عليها في ظل النظم الشيوعية التي حفرت عميقاً في نفوس أجيال من الناس في روسيا والصين وما زالت تشكل جانياً من خلفياتهم الفكرية!

فبينما كان البعثيون يدعون للثورات دون تشخيص واضح للأفق الثوري،وكتاب ميشيل عفق (في سبيل البعث )يكاد يكون مجموعة طلاسم وأحاجي وتهويمات فارغة، كان الشيوعيون يمتلكون وضوحاً حاداً يجعل الشيوعية تتطابق مع المستحيل، ويقولون أن الثورة ( ويعنون ثورتهم فقط) هي ( مولدة التاريخ) أو (قابلة مأذونة) يحق لها من الدم البشري ما لا يحق لغيرها، مؤكدين أنها حتمية حين تضيق علاقات الإنتاج بالقوى المنتجة، أو حين لا يعود الحاكمون قادرين على الحكم وفق الطريق القديمة، ولا يعود المحكومون قادرين على العيش وفق الطرق القديمة.لكنهم يرفضون سريان هذا القانون إذا عملت به المجتمعات الرازحة تحت حكمهم، أو حكم حلفائهم!

ولا يتحدثون عن قوانين خراب الثورة بخراب الثوار، وتفسخهم وفسادهم وانحلالهم وتحولهم إلى جثث محنطة متعفنة وراء أقنعة جنرالات، ورؤساء مبجلين،وقادة أحزاب معصومة، تتمرس بسرقة الثورة وتحولها إلى ملكية ثابتة لهم ولعوائلهم مدى الحياة! حيث لا يبقى منها على أيديهم سوى اسمها وراياتها التي تزداد أناقة وتكاثراً!

وقد استقى قادة الثورات القومية المنتصرة في ستينات القرن الماضي الكثير من طرائق عمل الشيوعيين الحاكمين واستعملوها في تثبيت أركان حكمهم،وتنفيذ الهوس الشمولي، والتدخل في أدق تفاصيل حياة الناس، ومحاربة الشيوعيين في بلدانهم ( تماماً كاستعمال الكلاشنكوف السوفيتي في إعدام الشيوعيين العراقيين)وقد أرسلوا كوادرهم للتدرب على طرق العمل الأمني والمخابراتي في موسكو وبرلين وبراغ، وينقل عن صدام إنه كان معجباً بستالين،ويعد بعض كتبه مراجع له، وهذا قد حدث في سوريا، وإلى حد ما في ليبيا، ما جعل هذه البلدان حلفاء تقليدين للروس والصينيين، ولكل أصحاب النظرة الشيوعية الستالينية المتحجرة!

طبعاً لا يحتاج المرء لعلم كثير ليعرف أن سبب تحول الثورات إلى مستنقعات دموية هي عدم قدرتها على بناء الديمقراطية، والتحرر من كوابح الأيدلوجيا الجامدة، والدين المسيس، وضغط التاريخ المتكلس، وعجز رجالها عن أن يكونوا ثواراً وديمقراطيين بنفس الوقت، وانغماسهم بالفساد وتبديد ثروات البلاد، وعدم تحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، وكأن الثورة كانت مجرد بطاقة دخول إلى قصور السلطة، والحرية التي وعدو بها الناس، تعني لهم حريتهم في اللعب برقاب وأموال ومصائر شعوبهم!

الثورة تولد حية واعدة، لكنها كأي كائن حي تحمل في أحشائها بذور موتها،واللصوص الذين سيسرقونها، والرجال والنساء الذين سيدعون أبوتها،والكتب البلهاء التي ستدعي أنها شريعتها وقانونها، لذا فإن من الحكمة أن لا يهب المرء أية ثورة سوى نصف فرحة!
ويؤجل النصف الآخر حتى يطمئن أنها لم تقع تحت هيمنة علمانيين فاسدين،أو أدعياء مستثمرين في الدين، خاصة الطائفيين والظلاميين والمتطرفين!
وثمة فرق نوعي وكبير بين ما تخوف به الأنظمة الآيلة للسقوط بريح الثورة، من بدائلها الإسلامية الأصولية أو غيرها، وبين ما يشخصه أصدقاء الثورة من أخطار جدية تتهددها!

يجد الإنسان في بلدان العرب نفسه في محنة أليمة، فهو يرزح تحت وطأة أوضاع قاسية لا تطاق، تجعله يتطلع لتغيير جذري انقلابي عميق وثورة ناضجة تحقق ذلك على أكمل وجه، وبنفس الوقت هو مثقل القلب بأشجان وآلام تاريخ طويل من الثورات والانقلابات التي عقد عليها الآباء والأجداد ذات الآمال، ثم تحولت إلى بنى متحجرة وطغاة، وأنظمة متفسخة جائرة!

فكل الثورات السابقة لم تستطع ان تتحول إلى أنظمة ديمقراطية تجعل عمليات التغيرات (كما في الغرب اليوم) تتم وفق آليات الديمقراطية، ومنظومات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، على العكس صار الثوار طغاة يورثون أبناءهم، بل يشوهون بدائلهم في الجانب المقابل ( ما زالت صحيحة الحكمة التي تقول : أن الطغاة لا يرحلون حتى يصنعوا بدائلهم في صفوف خصومهم وعلى شاكلتهم،وحكام العراق اليوم أسوء دليل على ذلك) و مع ذلك من الخطأ الفادح الوقوف بوجه تيار الشعوب الناهضة،ومن الضروري احترام ثوراتها ونصرتها دون إغفال نقدها ومراقبتها بدقة وموضوعية وعدم الاكتفاء بالتصفيق والتهليل لها، أن افضل خدمة يقدمها المثقف للثورة والثوار اليوم، هو تبصيرهم بأخطائهم وبوادر انحرافاتهم، والحفر والهوة السحيقة التي تكتنف طريقهم وتترصد خطاهم!

لذا ينبغي التحذير من تفجير دماء الناس في ثورة لم تقدم مشروعها الديمقراطي منذ البدء، فالثورة ليست تكسي لإيصال الراغبين بالسلطة إلى كراسيهم، وجماجم الناس ليست رؤوس بصل! والربيع العربي يجب أن لا يسقى بالدم فقط، بل بالفكر العميق، والرؤية الواضحة!

إذا كان البعض يدفع بها لتكون كذلك، فينبغي إيقافه عند حده من الثوار أنفسهم، وإنضاج ثورة حقيقية تضمن مصالح الناس خاصة المعدمين والفقراء والكادحين،وتمنحهم فرصهم المشروعة في الحياة الحرة الكريمة،وتسلم السلطة لمن هم جديرون بها وطنياً وأخلاقياً فيكونوا هم أول من يضحي، وآخر من يستفيد، وان يرحلوا وفق مواعيد دستورية دقيقة مسلمين السلطة لمن تؤشر عليهم صناديق الاقتراع،ولا يظلوا يحكمون باسم الثورية،والظروف الاستثنائية، وأنظمة مجلس قيادة الثورة، حتى يدركهم خريفهم الثوري، ويرفع الناس أمامهم لافتة (إرحل)!

نظل رغم الخيبات والآلام، نفرح ونستبشر بانتصار ثورات تونس ومصر وليبيا، والأمل كبير أنها ستنتصر في سوريا واليمن، لا محالة! وأن تتحقق في العراق وإيران والكثير من دول المنطقة التي طالت فيها أعمار الديناصورات!

وبقدر الفرح، هناك قلق أن يستولي على كراسي الثورات من سيجعلون الناس بسياساتهم وتصرفاتهم يترحمون على من سبقهم! وثمة خوف على الدم المسفوح: أن يصفى من أحلامه العظيمة، ليضخ في عروق دكتاتور آخر!

[email protected]