المتابع للشأن الفلسطيني لا يستطيع إلاّ أن يحزنَ على ما آل اليه مصير هذا الشعب المغلوب على أمره. المرء لا يحزن فقط على الشهداء الذين سقطوا خلال سنوات الصراع المرير مع الكيان الصهيوني، ولكنه يحزن كذلك على الأرض التي فقدها هذا الشعب خلال سنوات ذلك الصراع. فالنفوسُ تعوَّض، والشهداء يكرّمون في الآخرة قبل أن يكرمهم بنو ملتهم في الحياة الدنيا، ولكن عندما تذهب الأرض، وخاصة إذا ما أوستوطنت من قبل المحتل، الإسرائلي هنا، فانها لا ترجع، وإن رجعت في يوم الأيام، فسيرث المحرّرُ معها ملايينا من بني المحتل، وسيكون لهؤلاء حقوقا لا يستطيع أحد أن ينكرها، فليس هناك قانون سماوي أو وضعي يأخذ الإبنَ بجريرة أفعال أبيه، ومن هذا المنطلق فإن الإستعمار الإستيطاني هو أخطر شكلٍ من أشكال الإحتلال.

قبل عدة سنوات، حذرت من فقدان الأراضي الكوردية المعرّبة لهويتها إذا لم يقم الساسة الكورد بتدارك أمرهم بسرعة، وإرجاعها بأسرع وقت ممكن، حتى ولو بقوة السلاحِ. فللزمن أحكامه، فكلما مرّ يوم جديد، كلّما صعُبَ معه الإدعاء بالكوردية الصرفة لتلك الأراضي، وكلما إزدادت حقوق المستوطنين العرب فيها، فلا العقلُ ولا القوانين الإنسانية ولا الوضعية، كما أسلفت، ستسمح بأن تطلب ممن ولدَ وتررع من نسل المستوطنين في أراضي كوردستان أن يُلَملمَ حاجياته وأن يرجع إلى موطنه الأصلي، هذا إذا إفترضنا جدلا بأنها ستحرر في يوم من الأيام، وهذا ما لا أعتقد به إذا وضعنا سياسات الإقليم الحالية تحت المجهر.

لا يمكن للمتتبع للشأن الكوردي إلا أن يستنتج بأن شعب جنوب كوردستان هو الخاسر الأكبر منذ ولادة الدولة العراقية الثانية، فقد فشلت السلطات الكوردية فشلا ذريعا في تحقيق طموحات هذا الشعب في تحرير أرضه المعرّبة، مثلما فشلت السلطة الفلسطينة في تحرير أراضي شعب فلسطين التي أحتلتها إسرائيل عام 1967. لا بل تعاون المفاوض الكوردي، من حيث يدري أو لا يدري، في ترسيخ سياسات التعريب التي قامت بها حكومات الدولة العراقية الأولى والثانية وذلك بالتهاون في تطبيق المادة 140 التي تقضي بإعادة الأوضاع في المناطق المعربة إلى وضعها السابق. وهذه الخطيئة لا يمكن أن يسامح المرء في شأنها.

الساسة الكورد ليسوا بمؤمنين
يقول المثل quot;لا يلدغ المؤمن من نفس الجحر مرّتينquot;، والمتتبع لأداء الساسة الكورد يلاحظ بأنهم قد لدغوا عشرات المرات، ومن نفس الجحر، من قبل ساسة الدولة العراقية الأولى وخليفتها، وإنني أجزم بأنهم بنفسهم وبكل وعي وضعوا يدهم في ذلك الجحر. ففقدان تلك الأراضي لن يكن أكثر ألما لهم من ألم خسارة المناصب والأموال التي يخافون من ضياعها فيما إذا أصرّوا على تطبيق المادة 140 وغامروا بحدوث أزمة قد تتبَعها. أقول المادة 140 وقلبي يعتصر ألما، فمجرد القبول بوضع قضية التعريب موضع جدل وتسميتها بالمناطق المتنازعة، كان خطأً قاتلا. فالضحية لا يطلب منها أن تفاوض اللص. الضحية تأخذ حقها وتصفع اللص في وجهه.

لو بقيت لغيرك، لما آلت إليك
حقيقة لأمرٌ محير هو أمر القادة الكورد الجدد. أين هم من القادة الكورد العظام وعلى رأسهم قائد الشعب الكوردي، الأسطورة مصطفى البارزاني؟ الا يعي هؤلاء بأن ما حصلوا عليهم الآن كان البارزاني الخالد قد حصل عليه قبل 37 سنة؟ ألا يعرف هؤلاء بأن تحرير المناطق المعربة والقابعة تحت سلطة حكومات بغداد هي كانت دائما مربط الفرس؟ ألا يعرفون بان الحكومات العراقية سفكت دم مئات الآلاف من الكورد من أجل الإحتفاظ بتلك الأراضي؟ ألا يعرفون بأن الجيل القديم من البشمركة ضيع زهرة شبابه في الجبال الوعرة من أجل إرجاع تلك الأراضي؟ ألا يعرفون بأن أمتهم تعرضت إلى الإبادة البشرية وهي تقارع المحتل في سبيل تلك الأرض؟ ألا يعرفون بأن بناء القصور والجسور والفنادق لا يُملي عينَ الشعب الكوردي؟ ماذا نفعل بوجود قنصليات لدول أجنبية وأرضنا محتلة؟ ماذا نفعل بالسيارات الفارهة؟ هل الأخلاق تسمح بأن نستمتع نحن بحياتنا فيما يأن بنو جلدتنا تحت الإحتلال؟

إذا كانت دبابات وطائرات صدّام لم تنقذه من غضبة الشعب، علامَ يراهن المسؤول الكوردي عندما يأتي يوم الحِسابِ؟

(جامعة أوكسفورد البريطانيّة)