ليس هناك أدنى شك بأن إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، مطلب شعبي فلسطيني بامتياز، ولكن لم يخطر ببال الداعين إلى إنهاء الانقسام، أنه لا بد وأن يمر من عنق الزجاجة التي سماها المنجمون ومديرو الأزمات الفلسطينية ،المصالحة، ولم يخطر على بال الذين يديرون أزمة المصالحة، بأن الأخيرة ليست المطلب النهائي لجموع الشعب الفلسطيني المنتفض، لا هي ،ولا حتى إنهاء الانقسام ، والولوج نحو وحدة وطنية حقيقة، فهذه من المطالب الأولية التي يترتب عليها الانتقال من وضع عقيم ومستعص إلى وضع فعال ومجد على صعيد المشروع الوطني الفلسطيني، وهذه المطالب ظلت منذ أوسلو، وعلى وجه الدقة، منذ مؤتمر مدريد استحقاقات معلقة، نجم عن تعليقها وتجاهلها أضرار وأزمات كان الشعب الفلسطيني المثقل بأعباء إنهاء الاحتلال بغنى عنها. فقد ضيعت حصاد انتفاضتين فلسطينيتين كانتا كفيلتان برفع تكلفة الاحتلال، وإرغامه على الانكفاء. ولكن ما حدث هو، العكس ،انكفاء فلسطيني نحو الداخل رغم المشهد المقاوم، يقابله تمدد للمشروع الاستيطاني على ما اصطلح على تسميته بأرض الدولة الفلسطينية، فعشية توقيع اتفاق أوسلو كان عدد المستوطنين في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، مئة وسبعة آلاف مستوطن ليصبح اليوم قرابة ستمئة ألف مستوطن، ولهذا الرقم معناه عند المفاوض الإسرائيلي، فشارون عندما نفذ خطة فك الارتباط عن غزة، واجه المعترضين من المستوطنين، بالقول: quot; أنكم وطنتم سبعة آلاف مستوطن في غزة ولوكنتم وطنتم مليون لكان الأمر مختلفاquot;، بمعنى أن ذلك لا يمكن القول عنه سياسة الأمر الواقع، أما الستمئة آلف مستوطن في الضفة فنصفهم في القدس ومحيطها، وهذا واقع جديد لم يكن موجودا عشية أوسلو، والأخير كان مجرد جسر للوصول إلى هذا الواقع، الذي قوض أسس قيام دولة فلسطينية، وفتح الباب على مصراعيه أمام شعار أو مطلب الاعتراف quot;بيهودية الدولةquot;، والأمر بالنسبة لإسرائيل لا يتعلق بماهية الدولة الفلسطينية، بل بماهية الدولة اليهودية، وعليه لحظة وقوف المشروع الصهيوني متقدمة على لحظة وقوف المشروع الوطني الفلسطيني، فنحن كفلسطينيين نقف ما قبل أوسلو، أما الجانب الإسرائيلي فيقف ما بعد جدران الضم والفصل العنصري.

وعند المراحل النهائية لتهويد القدس، وتحديد شكل ونوعية الاعتراف المسبق بدولة إسرائيل، حيث انتقل إلى مفهوم الحق بالوجود، أي تثبيت الرواية التاريخية الصهيونية ونفي الرواية التاريخية الفسطينية،ثمة فارق زمني بين لحظة وقوف المفاوض الفلسطيني ونظرته للمرجعيات والمستقبل، ولحظة وقوف المفاوض الإسرائيلي ونظرته للمستقبل والمرجعيات، بمعنى أدق هناك وقت فلسطيني ضائع بلغ قرابة عشرين عاما، استثمرت بشكل جيد من قبل الاحتلال، فهناك حالة استعصاء لا يمكن معها العودة إلى طاولة المفاوضات، إلا وفقا للشروط الإسرائيلية، وهذا حسب خارطة الطريق، المرجعية الوحيدة الواضحة ظاهريا للمفاوضات، لأنها تنص تصريحا لا تلميحا على أن الحل بشأن القدس والاستيطان وقضايا الحل النهائي، هي حلول متفاوض عليها، والحل المتفاوض عليه دائما لا ينطلق، ومن وجهة نظر أميريكية إسرائيلية، لا ينطلق من مرجعيات ثابتة بل من الوقائع على الأرض. هذا فيما يتعلق باستعصاء الحل التفاوضي، ولكن ماذا عن الاستعصاء المتعلق بالبيت الفلسطيني، كمقدمة لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني برمته، وفقا للمعطيات الجديدة دون مكابرة أو وهم ودون روح انهزامية، لنصل إلى إجابات حقيقية عن أسئلة حقيقية.

ولكن كيف نرتب الإسئلة في ظل الأزمات المركبة والاستحقاقات المتراكمة، وهنا لا بد من فرز دقيق وموضوعي وبأدوات جديدة، لم تتلوث بالعمليات الجراحية القديمة والوهمية والمفتعلة لأسباب مختلفة، أولا هل الأسئلة المطروحة على جدول أعمال المصالحة الفلسطينية، هي أسئلة حقيقية أم مفتعلة، وهل هي من الأزمات الراهنة أم المتراكمة، موضوعيا هي من الأزمات المتراكمة أما منطقيا فهي من العقبات التي لابد من تجاوزها، بهدف الولوج إلى الأزمات الأكثر إلحاحا وتعقيدا، ولكن وفي هذا الإطار لدينا تجربة مريرة مع خسارة الوقت الضائع، إذا لا حاجة لإدارة المصالحة بقدر ماهناك حاجة لتجاوز العقبات التي تضعها المصالحة بوجه عربة الوحدة الوطنية، والوحدة الوطنية تفترض الخروج من حالة الاختزال التي كانت بنتيجة الماضي، وليس المراوحة في دائرة هذا الاختزال المخزي، فالمشروع الوطني الفلسطيني مع الأسف تم اختزاله بالسلطة الوطنية، والأخيرة تم اختزالها بالحكومة، وها هي المصالحة تختزل الحكومة بشخص رئيس الحكومة، بينما همشت ساحات كفاحية فلسطينية تهميشا تاما، فالكل يضرب بسيف اللاجئين من الناحية اللفظية والشعاراتية، وعمليا إشراك ساحات الكفاح الفلسطيني باتخاذ القرار في مؤخرة جدول الأعمال إن وجد، طبعا هذا الواقع أنتج أزمة ثقة بين الشعب الفلسطيني وقيادته بكل ألوانها وأشكالها، والسؤال هذه القيادة الفلسطينية هل تعترف بهذه الأزمة، والحقيقة أنها لا تعترف بل تداريها وتماطل بها، فالاستجابة للمصالحة هي استجابة وهمية وهي اختزال مثل كل الاختزالات، فالمأزق الحقيقي هو عدم الاعتراف حقيقة بوجود أزمة ثقة بين الشعب الفلسطيني ومكونات العمل الوطني الفوقية ودون تصنيف، وبغض النظر عن درجة هذه الأزمة من مكون لأخر، والسبب هو عجز البنية الفلسطينية المختزلة عن إيجاد آلية تمكن الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده من المشاركة في إدارة إزمة العمل الوطني الفلسطيني، واشتقاق الحلول وصياغة الحاضر والمستقبل، والحقيقة أن ما جرى في يومي النكبة والنكسة على أهميته، ليس في مجمله موجها ضد الاحتلال بل فيه رسالة خفية تعبر عن يأس الشارع الفلسطيني من منظومة العمل الوطني الفلسطيني القائمة، رغم محاولات البعض ركوب تلك الموجة والادعاء بأنه كان على رأسها أو بين صفوفها، فهذه الهبات المرشحة للتصاعد قد تتجاوز الواقع الفلسطيني الفصائلي القائم، فهي من جهة إيجابية لأنها تعبر عن انبعاث روح الشباب والإصرار على التمسك بالحقوق بعيدا عن المعادلات التيئيسية القائمة، ومن جهة أخرى تحتمل خطر حرمان هذه الانتفاضة من رصيد العمل الوطني الفلسطني الممتد على مدار أكثر من ستة عقود، والمحتجز في أيدي نخبة فلسطينية أصبحت جزءا من رموز الاستعصاء من وجهة نظر الشباب المندفع، إذا ثمة مصلحة وطنية عليا لإنهاء أزمة الثقة بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني، والانبعاث الجديد لجيل الشباب، كي لا نرسل أبناءنا نحو العفوية، وهم مجردون من الخبرة والرصيد الكفاحي الضروريين لمواصلة المشروع الوطني الفلسطيني، إذا لا بد من مد جسور الثقة بوقت مبكر نحو تلك الانتفاضة القادمة، وتسليحها بكل الرصيد الفلسطيني، كي لا نكرر الأزمة التي وقعت بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وفصائل المقاومة الإسلامية التي نشأت عشية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فعدم مد جسور الثقة بين الطرفين أوصل الحالة الداخلية الفلسطينية إلى ماهي عليه، فالخوف من مواجهة استحقاق المستقبل أخطر بكثير من دفع ثمن تلك المواجهة، وهنا لابد من الاعتراف بأننا على مفترق طرق لا تجوز معه المكابرة، فنحن بحاجة إلى إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني برمته، ولا بد من إشراك جيل الشباب وفي كل ساحات الكفاح الوطني الفلسطيني في تلك العملية، بعيدا عن الأبوية والمكابرة والاستئثار، ومع مزيد من الاحترام من قبل جيل الشباب وعدم الاستهتار بالتضحيات التي قدمتها وما زالت تقدمها فصائل العمل الوطني الفلسطيني، ومع اليقين التام بأننا تواصل لا انقطاع ولا قطيعة، فالكفاح الفلسطيني أشبه بمياه النهر المتدفق، فحذار حذار من الانقطاع والقطيعة.

كاتب فلسطيني

دمشق