كم من الثورات ظلت أملاً وحلماً بعيد المنال!
كم من الثورات أجهضت، أجنة في بطون الشعوب!
وكم من الثورات قتلت غيلة في مهدها!
ولكن أتعس نهاية للثورات هي أنها بعد أن تسقيها الشعوب دم قلوبها، فتنتصر وتحكم، تتحول في خريف العمر،و(خرف) العقل، إلى عجائز متصابيات، يعشن على الترقيع والمكياج!

ولكن كلما يفجع الإنسان بنهاية ثورة يعود ليأمل بأخرى، فهو محكوم بالأمل، أو بالأحرى بالأشغال الشاقة المؤبدة داخل الأمل!
والإنسان بجوهره لا يركن للجمود والخنوع والذل، وباب الحرية لا يفتح إلا لمن يركله بقدمه، لا لمن يقف على أعتابه يذرف الدموع!
كم اشتعلت الروح بأحلام الثورات!
منذ الصبا والتوق إلى الثورة والتغيير يهز القلب والبدن، ويلقيهما في أتوان من المعاناة والتيه والعذاب!

بعد سنوات طويلة من صراع مرير وملاحقة حتى المنفى الطويل، واقتراب سحابة العمر الأخيرة من التلاشي في الريح الباردة: يواجه القلب خيبته الكبرى: إن حلمه الثوري محض سراب، وإن الطائر الذي خفق بجناحيه أمامه ولحق به حتى آخر الدنيا، لم يكن سوى الروح نفسها تمارس مع صاحبها لعبة الهروب والتخفي بعد أن أشبعها بالجراحات والإهمال حين كانت داخل جسده!

ويستعيد وجوه الرفاق والأصدقاء الذين استشهدوا قبل ان يشهدوا نهاية الحلم! وماذا يجدي البكاء؟ عزاؤه أنهم لم يبقوا ليذوقوا معه طعم خيانة المثال الذي استلب عقولهم وماتوا على طريقه، تلك الخيانة الأشد قسوة من طعنة غدر:
لينين الذي بدأ ثائراً انتهى حاكما مهووساً متسلطاً!
ستالين الذي بدأ ثائراً انتهى دكتاتوراً!
ثورة أكتوبر التي قيل إن البشرية دخلت معها تاريخها الحقيقي، وتنفست الحرية كاملة لأول مرة، تتحول أخيراً إلى دولة صدئة مفككة تباع في سوق الخردة!
ماوتسي تونغ الذي بدأ ثائراً انتهى دكتاتوراً!
جمال عبد الناصر الذي دخل نادي الثوريين ببزته العسكرية صار بسرعة خاطفة دكتاتوراً، جذب حوله بوجهه الأسمر، وبصخب إذاعة صوت العرب قلوب الملايين، خانقاً أنين وصرخات معارضيه وضحاياه في سجني أبي زعبل والواحات، حتى أطاح به دكتاتور آخر بفنجان قهوة مسمومة كما قيل، ليقتل هو أيضا من قبل شاب رباه بنفسه على عقيدته الإسلامية، ليخلف دكتاتوراً آخر أطيح به أخيراً بالفيس بوك!

وثورة الجزائر التي سميت بثورة المليون شهيد، آلت أمجادها، مع أملاك معظم الأجانب في الجزائر لحفنة من قادتها وأتباعهم، الذين انقلب أحدهما على الآخر: بن بيلا، وبو مدين، والشاذلي بن جديد..، وأخيراً بوتفليقة الأكثر خوفاً الآن من انتصار الليبيين على القذافي!
ثم كاسترو، وتيتو، وشاويشسكو، وأنور خوجة وكيم ايل سونغ وابنه، وما لا يحصى من مخترعي الديمقراطية الثورية على مقاساتهم!

وعندما قام ضباط شيوعيون بانقلاب مفاجئ في افغانستان في نيسان 1978، استلهمهم الشيوعيون واليساريون واللبراليون في إيران، وراحوا يهزون عرش الشاه بهلوي في مظاهرات وإضرابات جارفة، مطلقين ثورة عارمة أصابت الإدارة الأمريكية ومخابراتها بالرعب، فعملوا بكل الطرق وبالتنسيق مع المخابرات الفرنسية على إدخال المؤسسة الدينية وروح الله الخميني إلى قلبها وأطرافها والسيطرة عليها وتوجيهها بعيداً عن الأهداف الديمقراطية والماركسية. وقد ضحوا بالشاه، رجلهم المخلص في طهران، ليقيموا هذا الجدار الديني المتين بوجه الشيوعية التي بدا آنذاك أنها توشك أن تلتهم المياه الدافئة وما تحتها من خزائن النفط. وقد انبرت دول المنطقة كلها لمساندتهم، فكان أن نشأت القاعدة، وكل التيارات المعادية للشيوعية، فانقض صدام على الشيوعيين في العراق، ذبح بعضهم، وشتت من تبقى! ولكي يغسل الخميني وجه ثورته احتجز موظفي السفارة الأمريكية رهائن، ولكي يبيض بن لادن تاريخه الأسود اقدم على 11 سبتمبر، وبذلك حولت الثورتان في أفغانستان وإيران إلى وبال وكوارث على المنطقة والعالم!

لماذا يسكت مجلس الأمن اليوم على جرائم حكام إيران وهم يسحقون الشباب الإيراني عندما يحاول استعادة الوجه الحقيقي للثورة في إيران؟ لماذا يتخلون عن مجاهدي خلق وهم نواة الثورة الأولى في إيران ويسمح لأصحاب حكام إيران في بغداد بقتلهم أو تهجيرهم؟ الجواب واضح: هناك ثورات مسموح بها من قبل الدول الكبرى، وأخرى مسموح لأعدائها سحقها؟

ومرة أخرى القذافي وحافظ أسد وصدام بدأوا ثواراً على طريقتهم البهلوانية، وانتهوا إلى جلادين سفاحين، أفلح أحدهم بتوريث ملكه لابنه، فيما فشل الآخران، وأطيح بهما بالاستعانة بدبابات، أو طائرات أجنبية!

تاريخنا العربي الإسلامي لا يقدم لنا ثائراً إلا وانتهى إلى حاكم متسلط، ولا ثورة إلا ركدت وتعطنت في بحيرات قصور السلطة! فكل التحولات التي حدثت في إطار الحكم من عصر الخلفاء الراشدين، فالأمويين، فالعباسيين، فعصور التفكك والانحلال بعد غزو هولاكو لبغداد، فأربعة قرون من حكم العثمانيين سارت في هذا السياق، ثورات على شكل حروب طويلة، أو قصيرة تنتهي إلى مستنقعات دم فاسد!
ثورة الحسين التي ما يزال أتباعه يبكونها منذ مئات السنين، لو كانت قد تحولت إلى دولة وسلطة، لما استطاعت أن تمد طموحها خارج حدود الدين، وأفقه المعروف، ومن حسن حظ الحسين، وسوء حظ المختلفين معه، إنه قضى شهيداً، ولم يصر حاكماً!

هل الخلل قي قيم العرب؟ قيم المسلمين ؟ أم كليهما معاً
خاصة حين يجتمعان؟ هذا أمر يحتاج لبحث شائك، لكن من الواضح أن السبب الرئيسي لخراب الثورات، أنها تختصر بأشخاصها وشعاراتها العاطفية الفضفاضة، ثوار دون مشاريع ثورية، وإن وجدت فهي لا تتجرأ على اختراق ثوابت الدين، والطائفة، والعنصر القومي، والتقاليد المتحجرة، ولا تجعل الديمقراطية( مهما كانت التسمية) روحاً لها!

ربما تحت وخز هذه الظاهرة ناقش لغويون قبل عقود، مصطلحي الثورة والانقلاب، وانتهى بعضهم للقول أن مصطلح الانقلاب يعني قلب الأوضاع رأساً على عقب، وعكس ما ذهب إليه أنصار الثورات نصح اللغويون باستعمال مصطلح الانقلاب لأنه يعني الإطاحة بالحكام ومفاهيمهم والإتيان بحكم الشعب،وتحقيق تحولات انقلابية عميقة،بينما مصطلح الثورة مأخوذ من هيجان الثور والثيران ومن الجيشان المنفلت، الذي لا يحكمه قانون ولا نظام، سوى غدد وغرائز الثور الذي يصير في النهاية دكتاتوراً!

شهد العصر الحديث في العراق ثورات كثيرة محبطة كالعادة، في آخرها جاء عبد الكريم قاسم ثائراً من معسكر للجيش، حطم دولة حديثة جميلة وداس بجزمته على دستور ناضج مهما قيل فيه، يبقى أفضل بكثير من دستور موديل 2003، وسكت على قتل الحكام السابقين دون محاكمة، وسحلهم وحرق جثثهم، ممهداً بذلك لمصيره هو أيضاً!
أختار من بغداد ذات القصور البديعة، ثكنة عثمانية قديمة حكم منها العراق بثيابه العسكرية، وبمزاجه العسكري، ولم يقدم لقاء هذا الثمن الباهظ شيئاً موازياً، على العكس صار على يديه باب الانقلابات مشرعاً ومشروعاً، والأعراف العسكرية فوق القوانين المدنية، حتى أطيح به بثورة أخرى، وأخرى، وراح المتسلطون يتناسلون أسرع من الأرانب، وأشرس من الذئاب، فاستمر حكم البعث خمس وثلاثين سنة ليكون أبشع نموذج لما تأتي به ثورة حزب واحد يفلح فيما بعد في جر الكثير من الأحزاب والقوى الثورية إلى مشروعه الشمولي!

جرى الخلاص من ذلك العهد بحرب عالمية، قادها الأمريكان وصورت في البداية على أنها ثورة وفق نهج العولمة، وإنها منقذة للجميع، ولتخليص العراق من تحكم طائفة بأخرى، وقومية بأخرى، وتحقيق الديمقراطية المفقودة، لكنهم بدلاً من تصفية الطائفية والعنصرية وإشاعة روح المواطنة والأخوة، استبدلوا طائفة بأخرى، وقومية بأخرى، أي هم قلبوا الساعة الرملية فقط، ونقلوا الداء من جنب إلى آخر، وحقنوه بديمقراطية مشوهة،ما جعله عضالاً لا يرجى شفاؤه!

ويطل اليوم من العهد الجديد نوري المالكي، حاملاً الكثير من صفات سابقيه المستبدين، وبينما كان يوما ما ثورياً على طريقة حزب الدعوة، يرتعد اليوم من الثورة والثوار، ويشتمهم وينسبهم لإسرائيل!

وهذا يشير إلى أن الرجل أعد حزب الدعوة ليكون بديلاً لحزب البعث، ونفسه بديلاً لدكتاتور آخر، والدستور الهزيل الحالي ليس عقبة أمامه بعد أن لعبوا به كثيراً وفق الاستحواذ الطائفي، وصفقات الفساد، لذا فإن من البؤس حصر صراع العراقيين مع الدكتاتورية الصاعدة، بهموم القائمة العراقية التي ما تزال تدور حول بناية مجلس السياسيات العليا الفارغة، والبحث عن وظيفة (لائقة) لإياد علاوي، ولا بمزاج الصدريين وأكاذيبهم، وتقلباتهم الخطيرة، واستلهامهم الوحي من طهران! ولا حتى بقضية الكهرباء والماء والخدمات!

ثمة صعاب كبيرة جداً أمام العراقيين للوصول إلى التغيير الحقيقي المنشود، والوضع مرشح لأن ينعطف نهائياً إلى حكم استبدادي تعسفي طويل الأمد، يقوم على تحالف طائفي شيعي وعنصري كردي توسعي، مسنود من إيران، خاصة وإن الأمريكان بعد أن فتحوا جراحات العراقيين يزدادون اليوم غلوا واستهتاراً في تركها لمزيد من رياح التعفن والغنغرينا! وخلايا القاعدة تستعيد نشاطها بقوة، وبقايا البعثيين رغم إن الكثير منهم استوعبتهم الأحزاب الشيعية الحاكمة، والسنية المتحاصصة، لكن ما يزال الكثير منهم عاطلين سائبين محتقني الصدور، يواصلون الارتماء في أحضان القاعدة، والانخراط في الإرهاب، بدلاً من الاعتراف بجرائم البعث وقيادته، والاعتذار عنها!
لكل ذلك فأن مهمات الثورة ما تزال أمام العراقيين، وليست وراءهم، رغم كل هذا الركام الطويل من الانقلابات والثورات والحروب!
وللحديث بقية...

[email protected]