يشكل الشباب أكثر من ستين بالمئة من عدد سكان الدول العربية وهي نسبة كبيرة بالقياس مع الدول الأخرى ومنها الدول الأوربية. وهذه النسبة تعني الكثير من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأي تهميش لهذه النسبة سيشكل خطر كبير على إستقرار ونمو تلك الدول في جميع النواحي، بالخصوص بعد موجة التغييرات الأخيرة والتغييرات التي ستحدث بالمستقبل. لقد تنفس شباب العالم العربي الصعداء بعد تلك الموجة من التغييرات التي هم من أشعلها عاقدين الأمل على ماسيحمل المستقبل في جعبته بعد التحول نحو الديمقراطية والحرية والإنفتاح السياسي، ولكن، ليس دائما يكون طريق الحرية مفروش بالورد والياسمين، فربما في القادم ماهو سيء أو حتى أسوء مما كان.

لقد تزامنت التحولات الديمقراطية في العالم الغربي مع الثورة الصناعية التي أحدثت ثورة في منظومة القيم والمفاهيم في جميع المجالات. أما التحول الذي تلاه فهو تحول نحو مجتمع المعرفة والمعلومات والذي إرتبط إرتباطا ً وثيقا ً بقيم الحداثة ومابعد الحداثة، حيث غياب مفهوم الهوية الجمعية وبروز الهوية الفردية التي هي بدورها صنيعة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إذ إن هذه الهوية عبارة عن صيرورة متحركة وغير ثابتة في مجتمع متحول ومتقلب حسب الاقتصاد المتقلب. بإختصار شديد، حدث هناك تحول كبير في المجتمعات الأوربية من مجتمعات منتجة إلى مجتمعات مستهلكة. يقول عالم الاجتماع الالماني باومان زيكمان أن ماحدث في العاصمة البريطانية هو تمرد من نوع جديد. فلم يعش الشباب المتمرد تجربة التهميش السياسي والاجتماعي بقدر عيشهم في ظل التهميش الاستهلاكي. فالمنتفضون هم خارج دائرة الاستهلاك التي أصبحت سمة من سمات المجتماعات الغربية. يقول زيكمان، فيما مضى كان الفرد لايشتري بدلة جديدة حتى يستهلك بدلته القديمة، فالشراء هو من أجل الحاجة فقط، أما في عصر الحداثة ومابعد الحداثة ففعل الشراء هو من أجل الإستهلاك وليس للحاجة. فالفرد في المجتمعات الأوربية يبني هويته من خلال فعل الإستهلاك، إذ إن عدم الإستهلاك يخلق هوية مضطربة مهمشة تبحث عن وجودها من خلال الكسب السريع أو إفتعال الأزمات الاجتماعية.

إذن، هذه هي التحولات التي مرت بها المجتمعات الأوربية وصولا ً للديمقراطية المرتبطة بثقافة الإستهلاك بعد أن قطعت شوطا ً لابئس به في معالجة التهميش السياسي لفئات كثيرة في المجتمع من خلال مبدأ المسواة وبالخصوص بين الرجل والمرأة. أما المجتمعات العربية فهي أشبه بمادة كيميائية تحولت بفعل الحرارة من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية دون المرور بالحالة السائلة، أي إنها تمر بحالة التسامي. فمن المعروف بأن المجتمعات العربية وحتى أنظمتها السياسية هي مجتمعات تقليدية تعيش على الزراعة وريع الثروات الطبيعية، أما الثقافة السائدة فهي ثقافة ذكورية هرمية ذات طابع أبوي، حيث تعيش فيه المرأة في الدرك الأسفل من سلم التهميش. أما الآن، وبعد التحولات الجديدة في الكثير من البلدان العربية، نشهد حالة من حالات التحول نحو الديمقراطية ونحو المجتمعات الإستهلاكية من دون المرور بمرحلة الصناعة والإنتاج، وهذا بالتأكيد سيخلق معه مشاكل كثيرة أو تحديات ستواجها المجتمعات التي تريد أن تتحول نحو الحداثة.

لقد كان شكل النظام السياسي في الدول العربية ومازال في الكثير منها دكتاتوريا ذو طبيعة شمولية تحميه ثقافة اجتماعية تحتقر فئات معينة من المجتمع كالمرأة والأقليات الإثنية والعرقية والدينية والطائفية والثقافية فتهمش سياسيا ً واجتماعيا ً ويغيب صوتها بإنتظار أقرب فرصة للتعبير عن نفسها. وهاهي الفرصة آتية مع ربيع الثورات العربية التي فتحت الباب أما الهويات الفرعية أن تعبر عن نفسها. لكن القادم مع الديمقراطية والإستهلاك ربما سيكون أكبر وأخطر. فبالرغم من أن الإنفتاح السياسي سيعطي فئة الشباب فرصة أكبر للتعبير عن نفسهم سياسيا ً واجتماعيا ً فإنه سيهمش هذه الفئة الضعيفة إستهلاكيا ً ويخلق تحد جديد أمام الحكومات العربية بكيفية إحتواء مايمكن أن يحدث من ردات فعل ربما ستكون عنيفة. إن الديمقراطية تجلب معها الحرية الفردية والحرية الاقتصادية من خلال فتح الأسواق حيث يقلل من التدخل الحكومي في التخطيط الاقتصادي والذي يؤدي بدوره إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء والذي يخلق بدوره فئات مهمشة ولكن من نوع جديد. إن تلك الفئات المهمشة تتضمن المهاجرين الجدد والأجانب الباحثين عن العمل، وفئة العاطلين عن العمل وأصحاب الدخل المحدود وأولئك من لاتشملهم شبكة الحماية الإجتماعية. إلا أن أكبر فئة ستصبح مهمشة هي فئة الشباب الذين يريدون الدخول في عالم الإستهلاك من أجل إثبات وجودهم وأن أي فشل في هذا سيحولهم إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة. فتوفير فرص العمل من خلال جلب الإستثمار سيكون حلا ً مثاليا ً لإستقطاب فئة الشباب وبالخصوص المتعلمين منهم.

إذن، لابد أن نكون واعين لما تجلبه لنا الديمقراطية من سيئات مع الحسنات التي نحن بأمس الحاجة إليها، ولابد من الإنتقال التدريجي من الأنظمة الدكتاتورية إلى الديمقراطية من خلال تبني أفكار الديمقراطية الاشتراكية قبل الشروع في التحول نحو الديمقراطية الليبرالية التي هي أكثر أنواع الديمقراطيات إنفتاحا ً على الفرد بدل الجماعة. أما الشباب، فهم الرابح الأكبر في هذه التحولات إلا أنهم سيصبحون الخاسر الأكبر إن لم تتم هذه التحولات بشكل تدريجي ومدروس، أي مرتب ومنظم وشفاف يتلائم مع طموحات الشباب.

عماد رسن
[email protected]