تبدو غضبة المجلس العسكري الذي يدير السلطة في مصر كبيرة جدا، وغير مبررة، من الوجهة التي رأت في ثورة 25 يناير 2011 خلاصا من القهر والاستبداد والفساد الذي كان سائدا في البلاد زمن الرئيس المخلوع مبارك، فهذه الغضبة تمثلت في البيان الذي ألقاه أسامة هيكل وزير الإعلام المصري المؤقت بشأن إعلان حالة الطوارىء في البلاد التي مددها المجلس العسكري إلى يونيو 2012 في مخالفة مبدئية للمرحلة التي سيجلس فيها في السلطة المؤقتة والتي حددها بستة أشهر انتهت فعليا في شهر أغسطس الماضي.
وضع المصريون أيديهم على قلوبهم من تهويلات المجلس العسكري، حيث تفاجأوا بهذه الغضبة على ثورة 25 يناير التي كان من أكبر أهدافها إلغاء حالة الطوارىء المفروضة على البلاد والعباد منذ اغتيال الرئيس أنور السادس فس أكتوبر 1981، كما وضعوا أيديهم على عقولهم متذكرين قرارات العهد السابق القمعية.
وإذا تأملنا في تصريحات اللواء منصور العيسوي وزير الداخلية المؤقت في حكومة عصام شرف المؤقتة أصلا، نجده يشير إلى أن quot;أحداث الجمعة الماضية 9 سبتمبر الجاري أكدت أن هناك مخططا لاسقاط الدولة والقوات المسلحة حتي تعم الفوضي في البلاد‮. ‬وأن بعض الجهات الخارجية هي التي تقف وراء هذا الامر فضلا عن وجود أفراد في الداخل تعمل علي تغذية هذا المشروع‮quot; ( صحيفة الأخبار 13 سبتمبر 2011) هل هذا كلام معقول؟ إسقاط الدولة والقوات المسلحة مرة واحدة، القوات المسلحة التي لم تستطع جيوش الأعداء إسقاطها تسقط على أيدي المئات من شباب الثورة؟


غضبة شعبية:
إن ما جرى أمام السفارة الإسرائيلية يعبر عن غضب الشعب المصري من سلطته التي لم تفعل شيئا لموت الضباط والجنود على الحدود المصرية الإسرائيلية بفعل قوات جيش الدفاع الصهيوني، ولم ترد حتى دبلوماسيا بسحب سفير أو طرد آخر، فكان هذا الغضب الذي تجلى الجمعة الماضية.
أما إغلاق قناة الجزيرة و16 قناة فضائية أخرى فهذا أمر أعادنا للوراء، وهذا لن يكرس حضور السلطة المؤقتة بقدر ما يكرس لعودة الديكتاتورية والانفراد بالقرار السياسي من قبل المجلس العسكري الذي يدير البلاد لفترة مؤقتة.
لقد وصفت بيانات المجلس العسكري ومجلس الوزراء المصري الشباب الذين قاموا بهدم الجدار الصغير حول السفارة الإسرائيلية وإنزال العلم الإسرائيلي واقتحام أرشيف السفارة وصفهم بأنهم غير شرفاء، وبأنهم ينفذون أجندات خارجية، وبأنهم قلة مدسوسة على ثوار 25 يناير، وتبرأت بعض الائتلافات الثورية والأحزاب القديمة مما فعله هؤلاء الشباب. ويبدو أن السلطة الرسمية في مصر (المجلس العسكري ومجلس الوزراء) عادوا للغة البيانات القديمة ما قبل 25 يناير 2011، مع تغيير طفيف في المعاني، فغير الشرفاء هم (القلة المنحرفة) سابقا، والقة المدسوسة هم ( مثيرو البلبلة) إلا أن البيان احتفظ بمسمى (تنفيذ أجندات خارجية) كما هو.

ثقافة البلطجة:

أكد معظم ضيوف البرامج الإعلامية بالتليفزيون المصري بمختلف قنواته على أن من قاموا باقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة هم من البلطجية، وهذا وصف يتناقض مع وصف الأجندات الخارجية، فثقافة البلطجي ومعرفته لا تستطيع استيعاب أو تفهم ماهية الأجندات الخارجية، وثقافة البلطجي ثقافة شوارعية لا تستند على أي شيء سوى قيامه بالاعتداء أو الضرب أو السرقة، ولا يمكن له أن يُسيس أو يغرر به إلا في هذه المشاهد فقط، فوصف الشباب الذين قاموا بهذا العمل الثوري وصف غير دقيق وغير صحيح.
لأن البلطجة أصلا في مصر موجودة بأعداد محدودة جدا، وتداول الإعلام لهذا المصطلح الشعبي قد يجعل المرء يظن أن معظم شباب مصر يمارس البلطجة، وهذا غير صحيح.

فقد بلغ عدد الشباب فى مصر طبقا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ( 2008) (الفئة العمرية من 15 - 29 عاما) 519ر23 مليون نسمة، بما يشكل نسبة 33ر31% من إجمالى عدد السكان البالغ وقتها حوالى 76 مليون نسمة، من بينهم 929ر11 مليون نسمة quot;ذكورquot; و 590ر11 مليون نسمة quot;اناثquot;.. وتبلغ الفئة الأولى من الشباب وهى فئة المراهقين ( 15 - 19 عاما) 806ر8 مليون نسمة ويشكلون نسبة 44ر37% ، والفئة الثانية وهى فئة الشباب (20 - 29 سنة) يبلغ عددهم 713ر14 مليون نسمة بنسبة 56ر62%. ويعيش أكثر من 70% من فئات الشباب في المناطق الريفية.
ويبلغ عدد المتعطلين عن العمل فى الفئة العمرية للشباب من quot;15 - 29 عاماquot; ، بلغ 894ر1 مليون متعطل بنسبة 7ر21% من إجمالي قوة العمل منهم 985 ألفا من الذكور بنسبة 52% من إجمالى المتعطلين فى هذه الفئة العمرية، و 909 ألآف متعطل من الأناث بنسبة 48% من إجمالى قوة العمل فى هذه الفئة.
وإذا تأملنا في هذه الإحصائيات نجد أن معظم هؤلاء الشباب يقطنون المناطق الريفية خارج العاصمة وأغلبهم يشتغل بالزراعة، ولا يتصور أن بعضهم يأتي ليمارس البلطجة في العاصمة، كذلك فإن شريحة المراهقين تمثل أكثر من ثلث عدد الشباب، ولا يعقل أيضا أن يترك الآباء أبناءهم في هذه السن يمارسون البلطجة، فضلا عن أنهم صغار السن، ولا يستطيع أكثرهم وهم مازالوا طلاب مدارس ولاعتبارات جسمانية أن يمارسوا البلطجة؟
كذلك فإن من ينتسبون للفئة العمرية (20-29) معظمهم إما طالب علم، أو مجند بالأمن المركزي أو القوات المسلحة خلال مرحلة التجنيد الإلزامي؟ فمن إذن يمارس البلطجة؟
تبقى أعداد محدودة ومعروفة لوزارة الداخلية والمباحث المصرية بالاسم هي التي تمارس البلطجة بيد أن أهواء ما هي التي تحرك البلطجية وتسعى للتضخيم من شأنها.
والشباب في مصر يلتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية ما بين (20-28) عاما، ثم ينقل إلى الاحتياطي مدة 10 سنوات، أي حتى يتجاوز العقد الرابع من عمره، فإذا تجاوز ذلك فإن أغلب الشباب يكون قد شكل أسرة، وتشكيله أسرة معناه أنه يعمل لمستقبل أبنائه ومن هنا يكون حريصا على ألا يتورط في أية قضايا، بل إنه يريد أن يمارس حياته بشكل طبيعي...


فمن أين تأتي البلطجة؟
فلا فتوات في مصر الآن إلا قليلا، ولا يستطيع أغلب الشباب في مصر أن يدعوا أنهم فتوات أو بلطجية
نعم هناك بعض الصبية تحت العشرين عاما من لم يحيوا حياة كريمة وعاشوا ألم التشرد، وهناك بعض العاطلين عن العمل، وهناك بعض خريجي السجون والسوابق الإجرامية، لكن مديريات الأمن وأجهزة الشرطة تعرف القاصي والداني في مصر، وتعرف أصحاب السوابق جميعا لأن معلوماتهم وصورهم الفوتوغرافية توزع في كل مديريات الأمن والمحافظات بمصر، ولايوجد صاحب سوابق في مصر إلا ومورس عليه مفهوم( الكعب الداير) من هنا فإن ظاهرة البلطجة ndash; في اعتقادي- ظاهرة مزيفة وغير حقيقية على النحو الذي تنقله وسائل الإعلام، القصد منها تخويف المجتمع المصري الذي يعرف كيف يتعامل مع أي بلطجي .
فهؤلاء الشباب أخذتهم الحمية الوطنية للتعبير عن موقف حاسم تجاه إسرائيل بعدما وجدوا أن السلطة المصرية قد تقاعست في أداء واجبها، وفي عدم التصعيد مع إسرائيل بعد مقتل ستة من الجنود والضباط المصريين داخل الحدود المصرية مع حدود (الكيان الصهيوني) وتبعا لذلك قرر شباب مصر من الثوار القيام بمظاهرة quot; لا للطوارىءquot; بميدان التحرير يوم الجمعة 16 سبتمبر الجاري، في غيبة الأحزاب الكارتونية العتيقة، ويبدو أن بركات المجلس العسكري في مصر لا تحل إلا بعد مظاهرة أو وقفة احتجاجية أو جمعة غضب.