بصرف النظر عن صحة التسريبات الإعلامية التي راجت في الآونة الأخيرة حول قيام السلطات السوري باعتقال ابنة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (خالد مشعل) وزوجها، واستدعاء الجهات الأمنية السورية لعائلة (أبي الوليد)، فرداً فرداً، والتحقيق معهم بخصوص ملفات فساد مالي، بحسب الأنباء المسربة، والتي نفتها حركة حماس وأصحاب العلاقة، فإن قرار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (خالد مشعل) التنحي عن رئاسة الحركة دون توضيح أو بيان وجهته المقبلة، يثير العديد من التكهنات والتساؤلات عن مصير الرجل ومستقبل الحركة، على حد سواء، رغم تلميحه إلى استمراره في العمل السياسي وخدمة قضايا الشعب الفلسطيني، ورفض بيان الحركة لقرار (مشعل) الأخير واعتباره قراراً شعبياً وسياسياً من حق الحركة التدخل فيه لمصلحة الشعب الفلسطيني العليا.
الدوافع الكامنة وراء اتخاذ هذا القرار لا يمكن بحال من الأحوال فصلها عن المشهد السوري المتأزم، وعلاقة حركة حماس المتراجعة بمضيفها السوري، والذي اغتفر فيه التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وفي مقدمتهم إخوان سورية، بحسب تصريح نائب المراقب العام للجماعة في سورية، للفرع الفلسطيني موقفه الملتبس مما يجري، وتشبيههم لوضعه بوضع جماعة الإخوان السورية في العراق، إبان حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وتعامله القاسي مع إخوان العراق في الوقت الذي استضافهم فيه؟!
الموقف السياسي للقوى الإسلامية الفلسطينية في سورية، بصرف النظر عن تقييمه أخلاقياً، موقف quot;حكيمquot;، من الناحية السياسية، يلاحظ خطورة التورط الفلسطيني في الشأن السوري، وحساسية وجود أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني يتمتعون بمزايا وامتيازات المواطن السوري منذ خمسينات القرن الماضي، أي قبل وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، فالحياد الإيجابي الذي اعتمدته حركة حماس، رغم أصولها وجذورها الإخوانية، واعتبارها امتداداً لحراك الإسلاميين في العالم العربي، كشف عن حجم كبير من الحنكة والدهاء السياسي في المشي بين حقول ألغام المشهد السوري، رغم ما جرّه عليها بعد ذلك من انتقادات وquot;تحريضquot; أعمى من قبل بعض المحللين السياسيين الموتورين في لبنان، للعب على الورقة المذهبية وصب الزيت على النار في الأزمة السورية، من خلال عدم التوقف عن مهاجمة فصائل المقاومة الفلسطينية ذات المرجعية الإسلامية في كل محفل ومنبر، رغم أن الأصل أن يلتزم الجميع بالحكمة السياسية إزاء ما يجري، وعدم امتهان التحريض في هذه الأزمة، والسعي لتقديم ورقة عمل أو مخرج للأزمة السورية، يجنب الجميع الويل والدمار وأنهار الدماء التي تسيل صباح مساء في سورية.
رغبة (أبي الوليد) في عدم الترشح لانتخابات الحركة المقبلة فهمها البعض تعبيراً يائساً عن حالة الضيق والتبرم من الوجود في حمام الدم السوري، ومحاصرته بتساؤلات حول عدم وجود موقف واضح لحركته مما يجري في سورية، وتأتي الأنباء عن اعتقالات واستدعاءات لعائلته لتزيد من هذا الاحتمال، لكن قراءة المشهد الفلسطيني وتحولاته بتأثير من الربيع العربي والمد الإسلامي المتعاظم يشي بقراءة مختلفة، وتخطيط الحركة (حماس) لمستقبلها في ضوء ما يجري، وسعيها إلى إعادة ترتيب أوراقها.
المعلومات تشير إلى زيارة متوقعة لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى الأردن برفقة ولي عهد قطر، وهي زيارة تفتح عهداً جديداً مع المملكة الأردنية، لن يكون الغاية منها بطبيعة الحال، تأمين عودة هادئة لمشعل وعائلته إلى عمّان، لا سيما بعد إعلانه عدم الترشح لرئاسة الحركة، كما قد يبدو للوهلة الأولى. بل هي تدشين لحقبة جديدة من العلاقات بين الطرفين (حماس والأردن)، تجد من خلالها الحركة متنفساً جديداً، وتعيد إحياء علاقتها الاستراتيجية مع بلد يشكل الفلسطينيون ثلثاه من حيث السكان، قبل أن يقوم (أبو الوليد) بحركته التالية، وهي إعلان ترشحه لمنصب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، بعد تفعيل مقعد إخوان فلسطين في التنظيم العالمي للإخوان نهاية العام الماضي، وفصله عن تنظيم إخوان بلاد الشام الذي كان يضم إخوان الأردن والخليج وفلسطين.
رئاسة المكتب السياسي للحركة التي ينتظر منها اكتساح منظمات وهيئات منظمة التحرير بتتويج عربي يوازي تتويج الإسلاميين في البلدان العربية في كل من مصر وتونس والمغرب وليبيا، سوف يتنافس عليها رجلان، وسوف تفضي نتيجة التنافس إلى خروج الثقل التنظيمي للحركة من دمشق إلى وجهة جديدة، فكل من موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي الذي تقيم عائلته في مصر، أو إسماعيل هنية، رئيس وزراء حكومة غزة، خارج نطاق التغطية السورية، وهو ما يؤمن انتقالاً سلساً وهادئاً وناعماً للحركة من دمشق، دون أي صدام أو اضطرار للتبرير أو التسويف في مواجهة جميع الأطراف.
هي إذن لعبة الكراسي السياسية (لا الموسيقية) أو تغيير ديمقراطي تشهده الحركة التي حظيت بمديح المرشد العام لتنظيم الإخوان في مصر بوصفها نموذجاً فريداً. لكنه تغيير ديمقراطي في نهاية المطاف، وإن كان اضطرارياً لإعادة ترتيب البيت الحمساوي والفلسطيني برمته، والتحضير لمرحلة مقبلة مطلوب فيها من حركة حماس والقوى الإسلامية الأخرى في فلسطين لعب دور أكبر في ملف القضية، بموازاة عمق عربي لبس لبوس الحراك الإسلامي، في انتخابات حرة ونزيهة، بشهادة القاصي والداني.
لست هنا في معرض مهاجمة خيارات الحركة أو محاسبتها، بل في معرض التحليل والتوضيح والقراءة لمستقبل حركة حماس وقياداتها، فلو كان أي تنظيم عربي مكانها لكان غارقاً بالسعادة ونشوة الانتصار الذي حققه حلفاؤه في المنطقة، لكن وعي الحركة المبكر بما هو مطلوب منها ومعول عليها، حسم أمر إجراء تغييرات ديمقراطية، وإن بدت اضطرارية، لصالح تأمين موقعها ومكانتها في مستقبل المنطقة والقضية الفلسطينية.

... كاتب وباحث
[email protected]