جاءت زيارة أردوغان إلى مصر في سياق جولة إقليمية إلى دول الثورات العربية وربيعها الذي أزهر ثلاث مرات خلال الفترة الماضية في كل من تونس ومصر وليبيا، على التوالي، لتؤكد ارتفاع الشأن التركي وحضوره القوي والمتنامي في المنطقة على حساب تراجع قوى إقليمية انشغلت بأزماتها الداخلية أو تخوفت من تقحم غمار التأييد لتلك الثورات إلا بعبارات عامة ودبلوماسية، أو خافت على مصالحها من عواقب الربيع العربي.
صحيح أن أردوغان تردد في دعم ثوار ليبيا بداية كما لم يتردد في دعم ثورتي مصر وتونس قبلها، إلا أنه استقبل استقبال الفاتحين، وتم ترسيخ النموذج النيوعثماني في المنطقة لصالح التأكيد على قوة النموذج والمثال التركي بوصفه الحاضن والمثال الأكثر نصوعاً لتيارات الإسلام السياسي العربية منها والإسلامية، الأمر الذي انعكس ارتياحاً آنياً ومؤقتاً لدى الدوائر الغربية إلى حين تتبدى الرؤية وينقشع الغبار عن النموذج الذي سوف تتمثله الدول العربية الثائرة حديثاً.
ووسط حفاوة بالغة، ألقى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خطابًا تاريخيًّا للعالم العربي من دار الأوبرا وسط القاهرة، حيا فيها شباب الثورة المصرية، مستحضرًا ذكرى quot;محمد الفاتحquot; من التاريخ التركي، وهو النموذج الأكثر لمعاناً في ذاكرة شباب الحركات الإسلامية، ولم ينس أردوغان quot;دغدغةquot; المشاعر العربية مستهلاً خطابه باللغة العربية: ''بسم الله الرحمن الرحيم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته'' ليرد عليه 1200 شخص اكتظت بهم قاعة المسرح الكبير بالأوبرا السلام.
أردوغان أكد في خطابه أن مصر سوف تعبر هذه المرحلة بأمن وسلام استنادًا لتاريخها العريق، لافتًا إلى أن المنطقة تعيش مرحلة تغيير تاريخي وثوري وديمقراطي مهمة وبدأت تبعث ميلادها من جديد، وأعرب عن شعوره بالسعادة البالغة والفخر الشديد وهو يشارك الشعب المصري فرحته بثورته، ثورة كان هو قد عمل على نموذج أبيض لها مع إقصائه لعشرات الضباط والعسكريين من الجيش، وضمان ولائه لحكومته.
جماعة الإخوان المسلمين في مصر لم تنس مبادلة أردوغان دفء المشاعر، فتجمع نحو 300 من الشباب معظمهم من التيارات الإسلامية خارج المبنى الذي يوجد به المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية عقب انتهاء أردوغان من إلقاء خطابه الموجه للعالم العربي ومصر، وردد الشباب الذين رفعوا الأعلام المصرية والتركية هتافات مؤيدة لأردوغان، حيث تضمنت بعض الهتافات الدعوة لإقامة دولة الخلافة الإسلامية.
الاحترام والتقدير الذي يحظى به أردوغان في العالم العربي لا يمكنه إنكاره أو التقليل منه، وكذلك نموذج حزبه في التعامل مع الخصوم السياسيين والعسكريين، لكن محاولات تتويجه على العالم العربي كزعيم جديد نستبدل به رموزاً وقادة عرباً بآخرين هو سرقة لمسعى الشباب العربي للتحرر من ربقة كل نير أو قيد قد يفرض على حريتهم.
حتى أردوغان لم ترق له تلك الشعارات، فرد على تلك المطالبات بالدعوة إلى دستور علماني للبلاد أثار حفيظة الإخوان والإسلاميين أنفسهم بعد ذلك، وقال المتحدث باسم الجماعة الدكتور محمود غزلان في تصريحات صحفية إن تجارب الدول الأخرى لا تستنسخ، وأن ظروف تركيا تفرض عليها التعامل بمفهوم الدولة العلمانية، معتبراً نصيحة رئيس وزراء تركيا للمصريين تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلاد!؟. وكان أردوغان دعا أثناء لقائه في برنامج حواري على إحدى الفضائيات المصريين إلى صياغة دستور يقوم على مبادئ العلمانية، وقال: quot;الآن في هذه الفترة الانتقالية في مصر وما بعدها أنا مؤمن بأن المصريين سيقيمون موضوع الديمقراطية بشكل جيد، وسوف يرون أن الدول العلمانية لا تعني (اللادينية)، وإنما تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينهquot;.
صحيح أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والعالم العربي قد بلغ معدلات قياسية، ففي النموذج المصري، أعلن أردوغان خلال زياته أنه تم الاتفاق خلال المباحثات مع الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء، على زيادة حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا من ثلاثة مليارات دولار حاليًا إلى خمسة مليارات. وأنه تم الاتفاق أيضًا على زيادة الاستثمارات التركية في مصر من 1.5 مليار دولار حاليًا إلى خمسة مليارات دولار خلال السنوات القليلة المقبلة، لكن كل ذلك يمكن توظيفه في سياق دعم استقلال القرار السياسي والاقتصادي للدول العربية لا نقل التبعية من منظومة إلى أخرى، ويمكن تحويل هذه الشعبية (لأردوغان) إلى ضامن للحراك السياسي الديمقراطي الذي يعم أرجاء المنطقة لا لتكبيل ذاك الحراك بشعارات ومبادئ لم يجرؤ أحد على إعلانها في ميادين التحرر والتحرير إيماناً بإمكانية التشارك مع quot;الآخرquot; وquot;الجميعquot; في صناعة المستقبل.
يبقى، أن التحالف الاستراتيجي الجديد الذي دشنه أردوغان أثناء زيارته إلى مصر لن يكون مستنده العلاقات السياسية أو الاقتصادية فقط، كما جرت عادة الأتراك في بناء علاقاتهم بدول الجوار العربي وغير العربي، بل سيستمد مشروعيته من تقاسم حالة العداء للكيان الإسرائيلي في ظل تزامن زيارته مع طرد سفير الكيان من أنقرة وتعليق العلاقات العسكرية والتجارية، واقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة وهروب السفير من مصر، وهو ما يعني أن أولى ثمار التغيير الذي ظل البعض يخافون من تبعاته ويهاجمون تركيا على أساسه، قد أضحى أمراً واقعاً، وإذ بدول ما كان يعرف بمحور quot;الاعتدالquot; تضحي دولاً مقاومة وممانعة بامتياز!


........كاتب وباحث
[email protected]