جاء قرار عمر سليمان، نائب الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ليضع حداً لأزمة لم تستمر أكثر من ثمانية عشر يوماً وتوقف نزيف الدم المصري والاعتصام في ميدان التحرير بعد أن وصلت مطالب المحتجين إلى سقف إسقاط كامل النظام ورأسه تحديداً. قرار المجلس العسكري التدخل جاء حينها لمنع انهيار البلاد والدخول في دوامة العنف، وهو أمر يحسب له بلا شك، لكنه بالمقابل أبقى على هيكيلة النظام مع استبدال ما استنفد منها لصالح الإبقاء على مؤسسات الدولة وهيئاتها، وهو الأمر الذي دفع المحتجين إلى الاستمرار في التظاهر بعد ذلك حتى محاكمة رموز النظام ورئيسه.
وفيما يتزايد الجدل بين القوى السياسية المصرية حول وثيقة المبادئ الأساسية للدستور التي أعدها نائب رئيس الوزراء الدكتور علي السلمي، بدأت تظهر بوادر رغبة الجيش إضافة مادة جديدة تتيح له لعب دور بارز في الحياة السياسية بعد نهاية المرحلة الانتقالية، وتعطي له حصانة لحماية ما سماه quot;مدنية الدولةquot;، على غرار النموذج التركي. فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير البلاد منذ الإطاحة بالرئيس مبارك، طلب من السلمي تعديل صياغة وثيقة المبادئ الأساسية للدستور بما يسمح بتضمينها في إعلان دستوري، بعد أن جاء في مقدمة وثيقة السلمي quot;أنه لا ينبغي مصادرة إرادة الشعب بوضع مبادئ فوق دستورية، ولا حاجة إلى إعلان دستوري جديدquot;. ونقل عن مصدر مطلع ومقرب من عصام شرف قوله إن quot;سبب رفض المجلس الوثيقة التي قدمها السلمي يرجع إلى افتقادها، وكل المبادرات السابقة، نقطة جوهرية تتعلق بتحديد دور رئيسي للجيش المصري في المرحلة المقبلة، ما بعد الانتقاليةquot;، مشيراً إلى رغبة قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تطبيق النموذج التركي، وأن تنص الوثيقة على أن الجيش هو حامي الدستور والدولة.

وتختلف آراء القوى السياسية حول المبادئ فوق الدستورية، ففي حين تؤيدها أحزاب الكتلة المصرية، وعلى رأسها quot;المصريين الأحرار والتجمع والجبهة الديمقراطية ومصر الحرية والتحرير الصوفيquot;، ترفضها بشكل قاطع الجماعة الإسلامية والدعوة السلفية والاشتراكيون الثورييون، بينما أعلنت أحزاب التحالف الديمقراطي وهي مقدمتها حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي للإخوان والوفد والكرامة والغد أنها توافق على المبادئ الدستورية شريطة ألا تصدر في إعلان دستوري وأن تكون مخيرة لا ملزمة.
التيارات الليبرالية لا تكتم رغبتها في دور قوي للجيش المصري في الحياة السياسية، على غرار الجيش في تركيا والذي كان المتحكم الرئيسي في الحياة السياسية منذ 88 سنة، ويقوم بحماية علمانية الدولة مما سماه quot;سيطرة الإسلاميينquot;، وقاد أربعة انقلابات عسكرية كان أولها عام 1960 وآخرها عام 1997، لكن نفوذه بدأ في التراجع أمام قوة حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان.
المجلس العسكري الحاكم في مصر لن يستثني أي جهد من وجهة نظرنا للتأكيد على وطنيته والاستفادة من المخزون الرمزي له لدى الشعب المصري لا سيما بعد موقفه من تنحي الرئيس مبارك، وتأتي الأحداث الأخيرة في غزة وعملية إيلات لتؤكد على تصاعد أسهم المجلس العسكري إلى الحد الذي دفع كثيراً من المحللين السياسيين الإسرائيليين يتخوفون من احتمال لجوء المجلس العسكري إلى مواجهة عسكرية مثلاً ضد quot;إسرائيلquot;؟
فقد حذرت دراسات وتقارير إسرائيلية من احتمال اندلاع مواجهات عسكرية بين مصر وquot;إسرائيلquot; مستندة في ذلك على نتائج استطلاع رأي أظهر موافقة 54% من المصريين على وجوب إلغاء اتفاقية السلام quot;كامب ديفيدquot; الموقعة مع تل أبيب عام 1979، بالإضافة إلى تعاظم القوة العسكرية للجيش المصري في سيناء، وأخيراً التوقعات بفوز جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية القادمة.
وفيما يتعلق بالإخوان ودورهم في إشعال الحرب، وفقاً للتوقعات الإسرائيلية، أبدى الخبير الاستراتيجي والمتخصص في دراسات الأمن القومي الإسرائيلي quot;إيهود عيلامquot; تخوفه من احتمال نجاح جماعة الإخوان في فرض سيطرتها وإحكام قبضتها على البلاد، سواء عن طريق الانتخابات أو quot;بحرب أهليةquot; بحسب تعبير quot;عيلامquot;. وأضاف عيلام في دراسته المنشورة على موقع مركز quot;إسرائيل ديفيندسquot; للأبحاث بتاريخ 7 يوليو أن quot;الحكومة المصرية الجديدة إذا قامت على حكم الإخوان ستقود مصر للتعاون مع حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان لإشعال الحرب ضد إسرائيلquot;.
من جهته، لم يستبعد القيادي السابق في جهاز المخابرات الإسرائيلي quot;دان إلدارquot; أن quot;يؤدي اندماج الإسلاميين في الحياة السياسية المصرية إلى تحالفهم مع قادة الجيشquot;، متوقعاً أن يسهم مثل هذا التحالف في التعجيل بوضع حد لمعاهدة (كامب ديفيد)، وأوضح إلدار، أن غياب نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك سيسمح بالتعبير عن العداء لإسرائيل الراسخ بعمق في نفوس للمصريين.
التوتر الذي أحدثه مقتل الجنود المصريين الثلاثة على الحدود مع الكيان الإسرائيلي والرد المصري الرسمي على ذلك، دفع الحكومة الإسرائيلية إلى التراجع عن فكرة شن عملية عسكرية كبيرة على قطاع غزة في أعقاب عملية إيلات بذرريعة عدم الرغبة في التسبب بضغوطات داخلية إضافية للمجلس العسكري قد تدفع الأخير إلى مزيد من التصعيد، وهو ما يعني أن الربيع العربي الذي بدأ شعبياً باتجاه استعادة الحرية والديمقراطية من أيدي أنظمة مستبدة قد يضحي نموذجاً تركياً سابقاً للنموذج الذي تجاوزته تركيا، وهو نموذج هيمنة العسكر على الحياة السياسية، وكأنه مقدر لنا في العالم العربي أن نعيد اجترار تجارب الآخرين... بعد أن مجوها!!

كاتب وباحث
[email protected]