لم يكن صناع الرأي والمثقفون العرب ليتصوروا أن يمتد عبير التغيير الذي اجتاح العالم العربي ليدك أبواب الكيان الإسرائيلي، الذي اتهم ومن ورائه الغرب والولايات المتحدة بمحاولة زعزعة الاستقرار في المنطقة، والاستجابة لمخططات أمريكية (بوشية) المنشأ، تجمعت تحت إطار (الفوضى الخلاقة).
فالمطالب المعيشية التي حملتها الحركة الاحتجاجية الإسرائيلية في مواجهة حكومة نتنياهو ربما لم ترفع شعار إسقاط الحكومة وتغيير النظام، كما هو الحال في العالم العربي، لكنها رفعت أعلاماً مصرية وشعارات مكتوبة بالعربية تنادي بالحرية والديمقراطية، وتطالب بإجراء إصلاحات تخفف من عبء تكاليف المعيشة عن المواطنين.
تل أبيب التي عرفت شوارعها مظاهرات بمئات الآلاف رفع المتظاهرون بجانب الأعلام الإسرائيلية، لافتة كبيرة كتب عليها quot;هنا مصرquot; في إشارة إلى الربيع العربي، وتحديداً الثورة المصرية التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، في إشارة واضحة إلى حجم التأثير الذي تركته الثورة المصرية على المتظاهرين الإسرائيليين، خاصة أن الظروف بين مصر والكيان الإسرائيلي متشابهة إلى حد ما على صعيد الفساد الداخلي والأزمات الاقتصادية المتكررة، لكن التأثر، هذه المرة، جاء عكسياً من مصر باتجاه quot;إسرائيلquot;.
المحتجون في تل أبيب طالبوا بمجموعة من الإجراءات والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية من بينها بناء مساكن تخصص للإيجار الرخيص، ورفع الحد الأدنى للأجور وفرض ضرائب على الشقق غير الآهلة، وضمان مجانية التعليم لجميع الأعمار. وقدرت مصادر أمنية إسرائيلية أعداد المتظاهرين بأكثر من 250 ألف في تل أبيب، وبثلاثين ألفاً في القدس المحتلة.
مراقبون أرجعوا التأثير الذي لم يكن خفياً في الشارع الإسرائيلي بالثورة المصرية إلى القرب الجغرافي والجوار الإقليمي، وتشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية المولدة لتلك الاحتجاجات التي استحالت ثورة في مصر، فمطالب المتظاهرين في quot;إسرائيلquot; لم تكن اقتصادية بالمقام الأول، لكنها تتشابه مع الحالة المصرية من حيث شيوع الفساد والتردي الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، فخلال عام 2011 مثل أكثر من 14 ألف مسؤول إسرائيلي أمام القضاء بتهم تتعلق بالفساد المالي.
قد يكون التشابه واقع أيضاً على المستوى السياسي فيما يخص هيمنة حزب الليكود منذ فترة طويلة على الوضع السياسي إلى جانب عدد قليل من الأحزاب الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، أما بقية الأحزاب فلا وجود لها كما هو الحال مع حزب العمل وغيره من الأحزاب الإسرائيلية.
وزير الحرب، إيهود باراك، رأى أن حركة الاحتجاجات الاجتماعية في الكيان الإسرائيلي تمثل ظاهرة هامة ومؤثرة، مؤكداً وجوب الإصغاء إلى مطالب المحتجين. وأكد باراك على ضرورة تغيير سلم الإولويات في quot;إسرائيلquot;، والعمل على تعزيز موقع الطبقات الوسطى والضعيفة. وأشار الى أن الشبان الذين يقيمون في المخيمات الاحتجاجية ملتزمون بالأعباء الأمنية، وسينخرطون أيضا في صفوف ما يعرف بقوات الاحتياط عند الضرورة.
ومع دخول الاحتجاجات في quot;إسرائيلquot; أسبوعها الرابع، وبعد إعلان نتنياهو عن تشكيل طاقم خبراء لتقديم توصيات إلى المجلس الوزاري الاجتماعي الاقتصادي بشأن الخطوات التي يجب اتخاذها لمعالجة غلاء المعيشة، أكد عدد من منظمي الاحتجاجات عن استعدادات لتنظيم مظاهرات يشارك فيها 500 ألف متظاهر، ونقل عن مركز المعلومات في quot;خيام الاحتجاجquot; في تل أبيب، أورئيل طال، قوله إنه يرحب بتشكيل اللجنة، وفي الوقت نفسه فإن المتظاهرين لن يسمحوا بالتهرب من المشاكل.
وكان قد نقل عن نتنياهو قوله لرئيس اللجنة المشكلة البروفيسور منوئيل طراختنبرغ إنه يدرك أن عليه إجراء تغيير في رؤيته. وكان الأخير قد قدم ظهر أمس تشكيلة طاقم الخبراء الذي سيحاور ممثلي الاحتجاجات، والذي يضم 15 عضواً ثابتاً، بينهم 5 من الأكاديميين والقطاع الخاص ووزير واحد هو ميخائيل إيتان، كما سيضم 8 مستشارين خارجيين.
قد تكون عوامل التأثر والتشابه مع ثورات الربيع العربي حاضرة وبقوة في بعض ملامح المشهد الاحتجاجي في الكيان الإسرائيلي، لكن إصرار منظميها على اعتماد اسم quot;الاحتجاجquot;، وعدم رفع سبق مطالبها إلى مستوى إسقاط الحكومة (رغم سهولته وتكرره في الآونة الأخيرة) أو تغيير شكل النظام القائم، يوحي بفوارق عميقة مع الثورات القائمة في العالم العربي، وهي ثورات، وهذا الأمر للمفارقة بطبيعة الحال، بدأت بمطالب شعبية احتجاجية على أوضاع اقتصادية واجتماعية معينة، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى ثورة عارمة لم تنطفئ جذوتها بعد، على الرغم من تنحي أو هروب بعض رموز النظام في عدد من البلدان العربية، الأمر الذي يمكن النظر إليه على أنه عامل تشابه جديد لم تفطن إليه الحكومة الإسرائيلية بعد، أو ربما لم يكن وارداً في بال منظمي الاحتجاجات وخلدهم..... حتى الآن.


كاتب وباحث
[email protected]