في ظل أجواء التخلف و الفوضى و النهب السلطوي و ضياع الهوية الوطنية التي يشهدها العراق بعد الإحتلال الأمريكي وتحوله بفضل همة الرفاق الأمريكان لحديقة خلفية لمصالح و مخابرات و انشطة نظام الولي الإيراني الفقيه، يبدو مستغربا تعمد بعض الأطراف الجاهلة بأبجديات التاريخ العراقي المعاصر التنطع وحمل السلاح و توجيه الإتهامات لواحد من أعرق الأحزاب الوطنية العراقية و أكثرها حضورا في المشهد التاريخي العراقي المعاصر بل و أكثرها تقديما للضحايا و الشهداء الذين ساروا على درب القضية الوطنية وفق إجتهاداتهم الخاصة ووفقا لما ساد من مفاهيم و أطر سياسية في العالم خلال مرحلة مابين الحربين الكونيتين و التي تشكل خلالها وبعدها شكل الخريطة الدولية، لقد قدم الشيوعيون العراقيون زهرة شبابهم دفاعا عن رؤاهم و تطلعاتهم و أملا في تعبيد الطريق لوطن حر و شعب سعيد ولم ينتظروا مكافأة من أحد، ولم يحصلوا أبدا على كعكة السلطة التي كانت طوع بنانهم لوشاؤا و لكنهم أعرضوا عنها لتقديرهم لصعوبة المهمة و مشقتها في بلاد لم تتحد على شيء قدر إتحادها على تقديس العنف و الخضوع للقوى ثم البصق عليه و التبرؤ منه بعد أن يضعف؟.

لم اكن أتصور مطلقا بأنه قد يأتي يوم أستل فيه قلمي و أدافع عن الحزب الشيوعي العراقي الذي أنا شخصيا لا أؤمن بالكثير من منطلقاته الفكرية و النظرية ولكنني أزاء الهجمة الفاشية و الرجعية لجماعات أحزاب اللطم و التخلف و العقل الجامد المتحجر عند حدود القرن الأول الهجري أراني أقف في خندق الدفاع عن الحقيقة وعن الشيوعيين العراقيين الذين إرتكبوا بكل تأكيد من خلال قياداتهم أخطاء قاتلة و مريعة ولكنهم لم يكونوا في السلطة بل حاولوا تشييد نظام تعددي في العراق يتيح الحرية للجميع ليمارس فيه الناس خيارهم من خلال العمل السياسي السلمي وعبر تطوير وتثقيف القواعد الجماهيرية وهي المهمة الأولى و الركيزة الأساسية لبناء نظام ديمقراطي صحي وسليم ويستمر ويتطور معه الشعب ويمنع قيام أي نوع من أنواع الدكتاتورية،

فالتخلف لايقيم ديمقراطية و المجتمع المتخلف يسيء لنفسه ويخرب الديمقراطية ويحولها لمهزلة وفقا لما هو سائد حاليا في العراق، لقد تأسس الفكر اليساري في العراق في بواكير قيام الدولة العراقية المعاصرة عام 1921 بعد قرون طويلة من الإحتلال و التخلف و إنعدام الهوية الوطنية في مجتمع عشائري إقطاعي تحالف فيه الإقطاع مع طبقة رجال الدين ليغيب الشعب بالكامل ولتزداد مساحات الفقر رغم جهود النظام الملكي الحثيثة لبناء الدولة بشكل تدريجي ووفقا للإمكانيات المتاحة وقتذاك، ولن أركز كثيرا على تاريخ الشيوعية في العراق لأن المقال ليس مخصصا لذلك بالضبط،

داود البصري

ولكن ذلك الحزب إستطاع التغلغل و النمو وسط البيئة الشعبية وحتى بين الأوساط البورجوازية وشكل في أواخر أربعينيات القرن الماضي قوة جماهيرية لايستهان بها، ثم جاءت مرحلة مابعد نهاية النظام الملكي بعد 14 تموز/يوليو 1958 ليصل الحزب لأقصى قوته وفاعليته في ظل وجود شخصيات مهمة في حكومة اللواء عبد الكريم قاسم ذات توجهات يسارية وشيوعية واضحة كالمهداوي وماجد محمد أمين ووصفي طاهر وداود الجنابي و كنعان خليل حداد و آخرون، وللأسف كانت ترتيبات إدارة الصراع الدولي خلال مرحلة الحرب الباردة قد رسمت علاماتها على الجسد العراقي الواهن الضعيف فنشب الصراع غير المبرر بين الشيوعيين وقوى اليسار وبين التيار القومي من ناصريين وبعثيين عفالقة حول الوحدة العربية أو الإتحاد العربي ودخلت مخابرات جمال عبد الناصر بقيادة عبد المجيد فريد وعبد الحميد السراج ( السلطان الأحمر ) لتعيث فسادا في العراق ولتحدث حربا أهلية طاحنة بدأت بتقاتل في المقاهي ثم نظمت عمليات إغتيال كبرى لقوى اليسار أرعبت الشارع العراقي خلال أعوام 1959 وحتى عام 1963 مورست خلالها من الجرائم مايذكرنا بما يحدث اليوم مع إختلاف المرحلة و الأطراف، وطبعا الشيوعيون ليسوا من جنس الملائكة بل أنهم بشر مارسوا دورهم أيضا في إرتكاب الأخطاء و الخطايا بعد فشل تمرد العقيد الشواف في الموصل في ربيع 1959 وكانت مؤامرة خبيثة دبرتها المخابرات المصرية وعزفت صوت العرب على ألحانها الدموية النشاز، المهم أن الخطأ ذو طبيعة تراكمية، وكان الشارع العراقي وقتذاك يهيمن عليه الشيوعيون وكان بإستطاعتهم إزاحة عبد الكريم قاسم و الهيمنة على السلطة إن شاؤا ولكنهم لم يفعلوا بل إكتفوا بالتحذير و المتابعة بعد أن رسمت القيادة الشيوعية تصورات خاطئة دفعوا أثمانها لاحقا من دمائهم ووجودهم، ولن ادخل في التفاصيل المأساوية ولكنني أقول فقط بأن الأطراف الرجعية من بعثيين و أهل العمائم قد شكلوا تحالفا شيطانيا إستهدف الوطنيين العراقيين عبر أسلوب التكفير و التسقيط كما فعل أحد الفقهاء حينما أفتى بكون ( الشيوعية كفر و إلحاد )!!! وهي الفتوى التي إستغلها العفالقة لتبرير فاشيتهم و مجازرهم الشنيعة في يوم الثامن من شباط/فبراير عام 1963 في ذلك الإنقلاب العسكري الأسود الذي فتح الباب لمجازر شعبية واسعة ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء تحت ستار محاربة الشيوعية و الكفر!

و المأساة بأن العديد من القيادات الشيوعية كانت تقبع في سجون عبد الكريم قاسم فأستلم البعثيون السلطة وأعدموا السجناء!!!، وخلال تلكم الأيام السوداء قدمت المخابرات الأمريكية خدمات سخية جدا للبعثيين بتزويدها بأسماء وعناوين الشيوعيين العراقيين من خلال إذاعات سرية فقتل الآلاف في أبشع مجزرة شهدها تاريخ العراق الحافل بالمجازر و المصائب و الرزايا، لقد مارس ( الحرس القومي ) الفاشي البعثي النازي أساليب إجرامية دنيئة وبرزت قيادات بعثية إرهابية مارست الجريمة بسادية غريبة على أجساد الشيوعيين كما فعل القيادي البعثي علي صالح السعدي وكذلك صدام حسين وناظم كزار و سعدون شاكر الذي كان يأمر الشيوعيين بحفر قبورهم ثم يقتلهم بدم بارد! وفتح قصر النهاية ( قصر الرحاب الملكي ) أبوابه من جديد ليحوله البعثيون لمعمل تعذيبي كبير إلتهم آلاف الأرواح في مواقف خزي تاريخية لا تنسى، والغريب بأن نهاية الحكم البعثي قد جاءت على يد حلفائهم الناصريين بعد ثمانية شهور في تشرين عام 1963 تشتت بعدها البعثيون ولكن ذلك لم يدعو الشيوعيون لفتح صفحات الإنتقام ممن ذبحهم بعد أن أضحوا مطاردين وخارج السلطة وظل البعثيون يسرحون ويمرحون ويعيشون حتى جاء إنقلابهم الثاني بفعل المخابرات الدولية ( الأمريكية/ البريطانية ) التي أعادتهم للقصر الجمهوري في 17 تموز/يوليو 1968 و ليستمروا في السلطة حتى جاء الرفاق الأمريكان وأسقطوهم في التاسع من نيسان عام 2003 مسلمين السلطة لجيل جديد وتتطلبه المرحلة من أحزاب اللطم و التخلف و العدمية و تنفيذا لأجندات دولية جديدة ومختلفة بالكامل..!.

لقد خرج من صفوف الحزب الشيوعي العراقي افواج من المثقفين و المتعلمين الذين يتفاخر بهم تاريخ الفكر و الرأي العراقي المعاصر، فحزب البعث رغم سطوته على السلطة والمجتمع لم يستطع إنتاج مفكر أو مثقف عراقي واحد يلفت الإنتباه سوى أولئك الذين إستطاع البعث كسب ولائهم من الشيوعيين ونتيجة لأسباب مختلفة من الترغيب و الترهيب، اما الفن و التمثيل و المسرح و الموسيقى و الغناء فكان واحة شيوعية خالصة من طالب القره غولي وكوكب حمزة وقصي البصري و آخرون إلتهمت أعمالهم وحيواتهم المنافي الباردة ورحلوا بعيدا بعد أن عملوا بصمت وغنوا للشعب وكانت كل أحلامهم أن يكون العراق حرا وسعيدا بمختلف أطيافه، لم يركضوا وراء الثروات ولم يسرقوا الميزانيات ولم يشكلوا الميليشيات أو يقسموا الشعب طوليا وعرضيا ووفقا لعقدة ( سقيفة بني ساعدة )!

أتحدى كل من يقبل التحدي أن يبرز لي مثقف واحد أو شاعر نحرير أنجبته الأحزاب الطائفية العراقية؟ أعطوني إسما واحدا غير طبقة اللطامة وأهل الندب، سموا لي أديبا أو مثقفا واحدا من أهل الأحزاب الطائفية والفاشية غير ( أبو درع ) و ( الخزعلي ) و ( البطاط ) وجماعة ( ثأر الله ) و ( بقية الله )و ( القاعدة في بلاد الرافدين ) و ( الزرقاويين ) وغيرهم من الشقاة و العتاة و المجرمين و القتلة و اللصوص، لقد ذهب الحزب الشيوعي العراقي ضحية لقياداته التي إرتكبت أخطاء جسيمة وتاريخية ولكن القاعدة كانت نقية و تبحث عن الخلاص بسلمية و أمل وعمل جماهيري ناكر للذات، التاريخ وحده هو من يقيم الأمور و يضعها في نصابها الصحيح وهو الذي سيلعن الفاشيين البعثيين وخلفائهم الفاشست الطائفيين الرجعيين، و أحكام التاريخ قاسية لا ترحم ولا تعرف المداهنة ولا النفاق ولا الرشوة.. أما من يخربش من مراهقي الكتابة في العراق اليوم ويكيل التهم التافهة و الجزافية للشيوعيين العراقيين فهو جاهل بالوراثة وهو من أتباع أهل الجهل و التخلف و العدمية وحيث تحول العراق اليوم لمستوطنة لأولئك القوم... ومع ذلك فما زال الأمل يحذو الأحرار في قيام وطن حر وشعب سعيد... و العاقبة للأحرار.

[email protected]