القادة الكرد في العراق ليسوا بهواة في مجال السياسة. وتاتي هذه الحقيقة في ظل سنوات الصراع الطويل التي خاضوها ضد النظام العراقي السابق، مما اكسبهم نوعا من النضج في التعاطي السياسي مع الكثير من القضايا المصيرية ذات العلاقة بالكرد في شمال العراق. ولعل ما حصل عليه هؤلاء القادة من امتيازات مهمة في الدولة العراقية بعد 2003 خير معبر عن هذه الحقيقة. فهم حتى اليوم يضمنون قدرا عاليا من الامن والانضباط في مناطقهم، كما يتمتعون بمؤشرات نمو اقتصادي وتجاري جيدة في ظل تسريع وتيرة الاعمار والاستثمار الاجنبي التي اسهمت في تغيير البنية الحضرية لمحافظات الاقليم بشكل دراماتيكي خلال السنوات الاخيرة بالمقارنة مع بقية العراق. وهنا يتوقع ان يحصل تطور مضاف يجني الاكراد هناك مكاسبه في حال التوصل الى حل نهائي ودستوري متفق عليه مع الحكومة المركزية لمشكلة العقود النفطية التي يعتمد عليها الاقليم كثيرا في تحقيق رؤاه وتطلعاته المستقبلية.

رغم ما تقدم من طرح لصورة براقة عن الوضع العام لكردستان العراق والدور الذي لعبته الكثير من القيادات الكردية، فان هذه الصورة ليست متكاملة وليست نهائية. فالقادة الاكراد اليوم جزء من تطورات الاوضاع الجارية في عموم المنطقة وهم كذلك لاعب اساس في مجمل المشاريع المستقبلية ذات العلاقة بما يجري في سوريا اليوم. وهو ما دعا البعض الى وصف الكرد بانهم يعدون اليوم من بين اهم المجموعات الفاعلة في السياسة الاقليمية، الامر الذي يجبر العديد من الدول على الاهتمام بامكانية استغلال ( وليس استثمار ) وجودهم في خضم هذا الصراع. وهو ما افضى الى الزج بالكرد في لعبة قد تضر كثيرا بمستقبلهم وبالذات في العراق، اذ ان الانجازات التي تحققت معرضة للضياع بشكل كبير في ظل الاصطفاف الذي اختاره البعض مع المحور التركي ndash; الخليجي الذي ينشط عمليا ضد المحور الايراني في المنطقة.

تبدوا ملامح هذا الاندفاع باتجاه المحور المذكور من خلال العديد من المؤشرات التي توضحت معالمها مؤخرا والخاصة حصرا بتأزيم الموقف مع الحكومة المركزية ارضاء لتوجهات هذا الحلف الذي ينظر لحكومة بغداد على انها جزء من المحور الايراني ولابد من اضعافه داخليا باثارة المشاكل المعهودة مابين المركز والاكراد. وهو ما يجعل البعض يتسائل عن السبب الذي دفع القادة الكرد الى الدخول في هذه اللعبة الخطرة التي تدير اوراقها تركيا الدولة الجارة للعراق؟

د. دياري صالح مجيد

تجدر الاشارة الى ان الخطاب التركي حتى وقت ليس بالبعيد كان متشنجا تماما من قضايا مهمة ترتبط بالاكراد في كردستان العراق وعلى راس هذه القضايا تاتي قضية كركوك، التي ينظر لها القادة الاكراد على انها قضية جوهرية في سياستهم المتبعة في الداخل العراقي. يكفي هنا ان نشير الى ماقاله السيد جلال طالباني تجاه موضوع هذه المحافظة التي وصفها بـالاتي quot; كركوك مدينة مقدسة للكرد شانها شان القدس بالنسبة للمسلمين، وقد كنا ولا نزال نناضل من اجل استردادها لاكثر من 40 عاماً quot;. في حين ذكر السيد مسعود بارزاني في مناسبات مختلفة على ان quot; الهوية الكردية لمدينة كركوك لا يمكن ان تُغير. فهي قلب كردستان، لذا فاننا مستعدون للقتال والتضحية بانفسنا من اجل حماية وادامة هويتها تلك quot;. وهو ما اثار حفيظة الجانب التركي عدة مرات، اذ تم هذا الموضوع في زمن حزب العدالة والتنمية وليس في زمن اخر. الا ان الملاحظ بان هذا التوتر حصل في زمن سبق بفترة وجيزة الازمة السورية وترافق تقريبا مع فترة الحديث الجدي عن موضوع الانسحاب الامريكي من العراق. وهو ماقاد الجانب التركي في حينها الى الرد بنبرة مليئة بالتهديد والوعيد للجانب الكردي خصوصا، وذلك في ظل المخاوف التي تشغل بال القيادات التركية من ان يستثمر القادة الاكراد الاوضاع العامة في العراق من اجل تحقيق حلمهم في هذه المدينة وبالتالي تشجيع الاكراد في تركيا على تحقيق نوع من التكامل مع المشروع الذي يقوده القادة الاكراد في كردستان العراق. لذا نرصد احد اهم الردود التركية من هذا الموضوع عبر ماقاله وزير الخارجية التركي ( السابق ) عبد الله كول الذي ذكر بأن quot; تركيا سوف تتدخل عسكريا للعمل على منع كركوك من ان تصبح عاصمة لاقليم كردستان العراق quot;.

هاتين الرؤيتين المتناقضتين قادت البعض الى تصور مشهد مستقبلي يسوده الخلاف بين الطرفين، الا ان الموضوع تغير بدرجة ما في ظل العلاقات القوية التي تربط القادة الكرد اليوم بتركيا. وهو ما قد يدفع البعض الى طرح تصور جدلي للاجابة عن السؤال السابق يقوم على فكرة المقايضة في المواقف الخاصة بشكل دقيق بملف مدينة كركوك في مقابل الدعم الذي يقدمه القادة الكرد في العراق لتركيا حيال مشروعها في سوريا، وكذلك في مقابل تحول القيادات الكردية في العراق الى مخفف لضغط القضية الكردية في سوريا على القيادات التركية. وهو ماقد يتعزز بشكل اكبر في ظل الرؤية التركية الرسمية التي تؤكد على الاتي quot; قامت انقرة بالعمل على اقامة علاقات وثيقة الصلة مع البارزاني لانها تتطلع لتوسيع حصصها في قطاع الاموال والطاقة في كردستان العراق، ويتوقع لهذا التقارب ان يسهم في مساعدة تركيا على زيادة قوتها تجاه ملف الاكراد في سوريا quot;. وهو ربما ذات السبب الذي دفع بتركيا الى دعوة السيد بارزاني ليكون من بين 100 شخصية سياسية في العالم لحضور احتفالية تأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.

ان صح التصور السابق، فانه يعني بان القادة الاكراد في شمال العراق ابتلعوا الطُعم التركي وتحولوا دون وعي منهم الى ورقة بيد تركيا التي كانت حتى الامس القريب من الد اعدائهم. فتركيا لن تسمح لهم بتحقيق هذه المقايضة على المدى البعيد حتى وان بدت اليوم مؤيدة لبعض من توجهاتهم الحالية في العراق، وياتي هذا الراي في ظل القناعة التركية الراسخة لدى العديد من القيادات في انقرة التي تنظر الى طموح الدولة الكردية على انه تهديد مباشر لوحدة وامن تركيا وعندها لابد ان يجابه من قبلهم بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة، وهي استراتيجية لاتحيد عنها تركيا رغم التبدل الذي قد يطرأ على التكتيكات المتبعة فيها. يكفي هنا الاشارة الى ان السيد داوود اوغلو عبر مرارا عن رغبة تركيا في قيام شرق اوسط جديد تحت المظلة التركية عبر اعادة امجاد الامبراطورية العثمانية دون ان يكون في ظل هذه الفكرة دور استقلالي للكرد، وهو ما دعا حزب السلام والديمقراطية الكردي في تركيا الى الرد عليه بالقول quot; نحن نحترم احلام السيد اوغلو، الا ان عليه ان يدرك بان الشعوب في هذا الاقليم لديها هي الاخرى احلامها الخاصة بها وهي مختلفة تماما عن تلك التي يرسمها السيد اوغلوا في راسه. اذ ان الاكراد، العرب، الايرانيين والاخرين لا يريدون العيش تحت المظلة التركية quot;.

ما تقدم يتطلب من القادة الاكراد اعادة النظر في حساباتهم والتعامل بواقعية اكبر مع موضوع العلاقات الاقليمية التي يقيمونها مع تركيا كما عليهم التفكير بحل مشاكلهم بطريقة سلمية مع الحكومة المركزية داخليا وبالذات منها كركوك. على الاكراد ايضا ان لا يسمحوا لانفسهم بان يكونوا ورقة لعب مطروحة على طاولة المساومات السياسية الاقليمية، لانهم سيكونون الخاسر الاكبر في هذه اللعبة التي لا تعرف الا مبدأ القوة الذي دفع الاكراد في فترة مابعد الحرب العالمية الاولى والثانية ثمنه الباهض. اما ان حصل العكس فان النضج السياسي الكردي الذي اشرنا اليه يكون قد تحول الى حالة مناقضة في ظل عدم قراءة التاريخ والحقائق الجيوبولتيكية الحالية، التي تحتم على هذه القيادات الاستماع الى الراي الاخر وعدم الانغماس كثيرا في المشروع التركي.

كاتب واكاديمي عراقي
[email protected]